الجلسة الرابعة – الرقابة على الصحافة في بيروت في العهد العثماني

تعالج هذه الجلسة ممارسات الرقابة على الصحافة العربية في بيروت من قبل السلطات العثمانية. الجلسة توضح كيف أن الرقابة بدأت لينة نسبياً ولكنها مع الزمن اشتدّت لأسبابٍ بعضها يتعلّق بسياسات السلطان عبد الحميد الثاني التسلّطية وبعضها الآخر يتعلّق بسوء الإدارة وعدم كفاءة المسؤولين المعنيين بها. الجلسة أيضاً تتضمن نماذجاً من أغرب ممارسات الرقيب العثماني، كما أوردها الصحفي اللبناني سليم سركيس في كتابه غرائب المكتوبجي.

 

النصوص المقررة:

Cioeta, D.J. (1979), “Ottoman Censorship in Lebanon and Syria, 1876–1908”, International Journal of Middle East Studies, Vol. 10 No. 2, pp. 167–186

سركيس، سليم (1896) غرائب المكتوبجي، جريدة المشير، القاهرة، ص 4-36.

لتحميل نصّ اضغط على عنوانه.  

تطور الرقابة العثمانية على صحافة بيروت:

صدر أول قانون عثماني معني بالدوريات المطبوعة عام 1865. اشترط ذلك القانون استصدار رخصة من وزارة التعليم باسم مواطن عثماني ذكر ذي سمعة حسنة يتحمّل المسؤولية القانونية عن محتويات الدورية المعنية. ابتداءً من عام 1871 أوكلت مهمة الإشراف على تنفيذ قانون الدوريات المطبوعة في ولايةٍ ما إلى مكتوبجي تلك الولاية (أي سكرتير الوالي). الرقابة في تلك المرحلة كانت تمارس بعد النشر وليس قبله؛ بمعنى أن المكتوبجي لا يطّلع على محتويات الصحيفة قبل طبعها، ولكنه يقوم بتوجيه إنذار أو يصدر عقوبة إيقاف (مؤقت أو دائم) في حال نشرها مواداً مخالفة.

 بقيت الرقابة لينة نسبياً حتى عام 1876، فلم يصدر حتى ذلك الحين إلا ثلاث إيقافات كانت جميعها لأسبابٍ غير سياسية. فعلى سبيل المثال، أوقفت صحيفة النحلة للصحفي لويس صابونجي عام 1871 لأنها تهجّمت على شخص بطرس البستاني وابنه سليم. السلطات العثمانية آنذاك نظرت للصحافة على أنها ليست ذات شأن، لذلك قلّما تدخلت في كتاباتها. فضلاً عن ذلك، كان معظم الصحفيين في ذلك الوقت مؤيدين للحكم العثماني ولمشروعه الإصلاحي وبالتالي لم يكن لديهم ميل لتوجيه انتقاداتٍ خارج الإطار المتعارف عليه.

ولكن الحال بدأ يتغير تدريجياً بعد صعود السلطان عبد الحميد الثاني عرش السلطنة عام 1876، حيث ازدادت الإنذارات والإيقافات بشكلٍ مضطرد وبدأت السلطات بممارسة رقابة قبل النشر. كما أنها منعت في أحيانٍ كثيرة دخول الصحف المطبوعة في الخارج، بل مارست ضغوطاً على الحكومات الأجنبية لإيقاف الصحف المعارضة المطبوعة في أراضيها.

مع ذلك بقي الأثر السلبي لهذه الإجراءات على الصحافة العربية في بيروت محدوداً في البداية. يرجع ذلك بشكل أساسي إلى لين وكفاءة المسؤولين عن تنفيذ القوانين الجديدة. فمكتوبجي ولاية سورية التي كانت تتبع لها بيروت لم يكن إلّا الصحفي العريق خليل خوري—محرّر أول صحيفة إخبارية خاصة في العالم العربي (حديقة الأخبار 1858). كان خليل خوري على علاقة طيبة مع معظم صحفيي بيروت وكان حريصاً على معالجة أي إشكالية بشكلٍ غير رسمي قبل طباعة العدد وليس بعده، كي يتجنّب إصدار إنذارات أو إيقافات تضرّ بالصحيفة المعنية. كما كان والي سورية الإصلاحي مدحت باشا (1878-0188) ومهندس الدستور العثماني الذي صدر عام 1876 داعماً للصحافة العربية في بيروت، ولم يتدخل لإيقاف صدور أي صحيفة ما لم تدعُ إلى شيءٍ من قبيل عصيان أوامر الدولة، كما فعلت صحيفة الجنة عام 1879عندما دعت الناس صراحةً إلى رفض التعامل بأوراق مالية صادرة عن الحكومة العثمانية، مما تسبب بإيقافها لبعض الوقت.

Midhat_pasha_by_nader

السياسي العثماني الإصلاحي مدحت باشا، المصدر: ويكيميديا

في الحقيقة، كما يذكر شيوتا Cioeta في مقالته المرفقة أعلاه عن الرقابة على الصحافة في سوريا ولبنان أثناء الحكم العثماني، كانت الحكومة العثمانية في كثير من الأحيان أكثر تسامحاً مع الصحافة من القوى الشعبية المحافظة التي كانت تضغط على السلطات لإيقاف الصحف التي تنشر آراءً لا تروق لها، كما حدث لصحيفتين أسسهما الكواكبي في حلب. كما يؤكد شيوتا أن الرقابة العثمانية في ذلك الوقت لم تكن تتجاوز في مداها نظيراتها في الدول الأوروبية، كألمانيا حيث مارست حكومة المستشار الحديدي أوتو فون بسمارك (1871-1890) تضييقاً شديداً على الصحافة الاشتراكية والكاثوليكية.

خلفاء مدحت باشا في ولاية سورية لم يكونوا بالقدر ذاته من التسامح مع الصحافة، فتزايدت الإنذارات والإيقافات خلال ثمانينيات القرن التاسع عشر. ولكن الضربة الأكبر التي تعرضت لها صحافة بيروت جاءت عام 1888، عندما فصلت مدينتهم عن ولاية سورية وتم جعلها عاصمة ولاية مستقلة تشمل معظم الساحل السوري. فخليل خوري بقي مكتوبجي ولاية سورية وبالتالي لم يعد مسؤولاً عن الصحافة السورية التي كان معظمها موجوداً في بيروت. في المقابل شغر منصب مكتوبجي ولاية بيروت عدد من الأشخاص غير الأكفاء، الذين لم يكونوا جاهلين بمهنة الصحافة فحسب، بل جاهلين باللغة العربية نفسها! فخليل سركيس يصف أحد مكتوبجية ولاية بيروت، واسمه عبد الله نجيب، بأنه يعرف من اللغة العربية قدر ما يعرف سركيس من “لغة آدم” (أنظر نص سركيس المرفق ص 21).

النتيجة المباشرة لذلك أن الرقابة على الصحافة باتت اعتباطية إلى حدٍّ بعيد، كما أنها لم تعد معنية بالسياسات أو الآراء وإنما بذكر مصطلحات بعينها أو إيراد أخبار من طبيعة معينة. فقد كان المكتوبجي يقرأ مسودّة الصحيفة وإذا عثر فيها على كلمة أو خير لم يعجبه، كان يمنع صدورها. فمثلاً كانت أخبار الاغتيالات ممنوعة كما كان ذكر كلمة “جمهورية” محرماً بسبب هوس السلطان عبد الحميد، حسب ما يذكر سركيس، بموضوع الاغتيال أو قيام ثورة جمهورية عليه. لهذا السبب يجد المرء أن صحافة بيروت لم تتحدّث عن اغتيال الرئيس الفرنسي سعدي كارنو عام 1894 بل عن وفاته.

ما زاد الطين بلّة بالنسبة للصحفيين في بيروت هو عدم وجود قوائم رسمية بالمواد الممنوعة، فلم يكونوا يعرفون بالضبط ما هو مسموح وما هو ممنوع. فعبد القادر القباني—صاحب ثمرات الفنون—يذكر أنه طلب من أحد مكتوبجيي بيروت أن يعطيه قواعد واضحة للنشر، فأشار المكتوبجي بإصبعه إلى رأسه؛ أي أن القواعد موجودة في رأسه. لذلك لم يكن لدى صحفيي بيروت من خيار غير إنشاء قوائم غير رسمية للمصطلحات والمواضيع الممنوعة بناءً على المحاولة والخطأ.

اشتداد الرقابة على الصحافة في الدولة العثمانية في العقد الأخير من ق 19 كان عاملاً مساعداً على ازدياد هجرة الصحفيين اللبنانيين باتجاه مصر أو أوروبا الغربية أو شمال أمريكا، وإن لم يكن السبب الوحيد لذلك. فقد بدأت هذه الهجرة قبل عقدين من الزمن وكانت مدفوعةً بالرغبة في إيجاد أسواق أكبر للعمل الصحفي مقارنة بالسوق السوري الصغير نسبياً.

غرائب المكتوبجي:

يفتتح سليم سركيس كتابه عن الرقابة على الصحافة بإهداءٍ ساخرٍ إلى “مولاي… جلالة السلطان عبد الحميد الأعظم”، الذي اتهمه بقتل عقول رعيته وسوقهم إلى الخراب. بعد ذلك يشرح سركيس تطور أحوال حرية الصحافة في سوريا، فيذكر أن صحف بيروت كانت في بداياتها “مطلقة” الحرية، تكتب ما تشاء، كما هو الحال في مصر لدى إنجاز كتابه هذا (صدر عام 1896). ولكن الحال تغير مع وضع الصحافة تحت سلطة المكتوبجية، الذين قاموا بممارسة الرقابة بشكلٍ تعسفي وعبثي. فيورد في كتابه نماذج من أغرب ممارسات المكتوبجية الرقابية. نذكر منها:

Maktubji_1Maktubji_2Maktubji_5

للمزيد من غرائب المكتوبجي، يمكن الاطلاع على نص سركيس من خلال الرابط الموجود في بداية المقالة.

One thought on “الجلسة الرابعة – الرقابة على الصحافة في بيروت في العهد العثماني

  1. […] الجلسة القادمة والأخيرة ستعالج موضوع الرقابة على الصحف. […]

Leave a comment