ملاحظة مقتضبة عن ترجمة كلمة “علماني” إلى اللغة العربية في القرن التاسع عشر

Secular 

غنيٌّ عن القول بأنّ العلمانية من المواضيع المثيرة للجدل في العالم العربي. ولكن الجدل لا يقتصر على العلمانية كفلسفة اجتماعية-سياسية، وإنما يمتد إلى المصطلح نفسه: فما هو أصل كلمة “علمانية”؟ وكيف درج استخدامها في اللغة العربية؟ وهل هي مشتقة من العِلم أم من العَالم؟ بلّ حتى لفظها مختلفٌ عليه: أهي بكسر العين أم فتحها؟

لقد طُرحت في السنوات الأخيرة بعض الأجوبة المقنعة لهذه التساؤلات. ومنها أن كلمة “علماني” ليست حديثة العهد بل تعود إلى التراث العربي المسيحي في القرون الوسطى (إن لم يكن أبعد من ذلك)، والذي يميّز—كما في الغرب—بين الكاهن المندرج في سلك رهباني (monastic) ونظيره الذي يعيش بين الناس أو “في العالم” (secular)، ولذلك يسمّى “علماني” أو “عالماني”، مما يوحي بأن الكلمة مستوحاة من “العالم” أو من كلمة سامية (ربما سريانية) مجانسة لها.

يعتقد الكثيرون بأنّ المسيحيين العرب من روّاد حركة النهضة في القرن التاسع عشر قد استخرجوا كلمة “علماني” من تراثهم الكنائسي واستخدموها لترجمة كلمة secular الإنجليزية ومجانساتها في اللغات الأوروبية الأخرى. عادةً ما تتم الإشارة إلى قاموس فرنسي-عربي ألّفه قبطي مصري يدعى إلياس بقطر (1784-1821) وطبع للمرة الأولى عام 1828 كأول توثيق معجمي للمقابلة بين كلمة secular  (أو séculier بالفرنسية) وكلمة “علماني” في اللغة العربية. كما وردت لفظة “عَلماني” في قاموس محيط المحيط لبطرس البستاني (طبع لأول مرة عام 1866) بمعنى “العامّي” أو “غير الإكليركي”.

Bochtor_386

كلمة “عالماني” أو “علماني” في قاموس بقطر، طبعة مكتبة لبنان Bocthor, Ellious. Dictionnaire Français – Arabe. Beirut: Librairie du Liban Publishers, 1995

من الجدير بالذكر أنه في الاستعمال المسيحي يوجد معنيان مختلفان لكلمة “علماني” أو secular. الأول للتمييز بين نوعين من الكهنة: الكهنة الرهبانيون والكهنة العلمانيون. ولكن هناك استخدام آخر للتمييز بين الكهنة من جهة (أيّاً كانت صفتهم) وبين العامّة laity من جهةٍ أخرى. وهذا هو المعنى الذي أعطاه البستاني. في حين أن بقطر ذكر المعنيين ولكن كلّاً على حدة: “الكاهن الذى ما هو راهب” تحت SÉCULIER و “عامي” تحت Séculier, mundain, laïque.

Bustani_Muhit

كلمة “عَلماني” في قاموس محيط المحيط لبطرس البستاني، مادة “علم”

ولكن كما تلاحظون، أيّ من القاموسين المذكورين أعلاه لا يعطي كلمة “علماني” بمعناها الحديث، أي “غير ديني” (أو “ضد ديني” عند البعض)، مما يطرح سؤالاً عن الكيفية التي اكتسبت بها هذا المعنى في اللغة العربية. قد يعتقد البعض بأن هذا السؤال لا ضرورة له؛ فمع تحول كلمة secular (أو laïque) ونظيراتها في اللغات الأوروبية لتكتسب معنى “غير ديني”—وهذا أمر لم يبدأ حتى منتصف القرن التاسع عشر (في بريطانيا مع بروز الحركة العلمانية البريطانية وظهور مصطلح secularism للمرة الأولى عام 1851، وفي فرنسا ظهرت كلمة laïceté عام 1871 لأول مرة)—اكتسبت كلمة علمانية تلقائياً هذا المعنى الجديد.

ولكن قراءاتي للصحف العربية التي صدرت في السبعينيات والثمانينيات من القرن التاسع عشر لا توحي بهذا التصور التبسيطي لتحول كلمة “علماني” من معناها الكنائسي إلى معناها الحديث. فصحيفة الجنان البيروتية (1870-1886) على سبيل المثال، والتي أصدرها بطرس البستاني وأدار تحريرها ابنه سليم، تضمّنت تغطياتٍ مكثفة للصراعات بين الكنيسة الكاثوليكية وعدد من الحكومات الأوروبية خلال تلك الفترة، الكثير منها كان منقولاً عن الصحف الأوروبية، ومع ذلك بالكاد يعثر المرء على كلمة “علماني” فيها. في الحقيقة، بعض المقالات التي نشرتها الجنان نقلاً عن الصحف الأوروبية تضمّنت كلمة secular في نصوصها الأصلية ولكنّها لم تترجم باستخدام كلمة “علماني”. سأتناول في هذه التدوينة مثالاً على ذلك.

في عددها الثاني لعام 1874 (الصادر بتاريخ 15 يناير/ كانون الثاني) نشرت الجنان ترجمةً لمنشور بابوي Encyclical أصدره البابا بيوس التاسع (ص 41-50)، والذي كان محاصراً في الفاتيكان منذ احتلال الجيش الإيطالي لروما عام 1870. المنشور صدر يوم 21 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1873 باللغة الإيطالية تحت عنوان Etsi Multa، وتناول ما اعتبره البابا تعدّيات على حقوق الكنيسة في ألمانيا وسويسرا وإيطاليا. ولكن الجنان لم تترجم عن النص الأصلي للمنشور، وإنما عن ترجمته الإنجليزية المنشورة في صحيفة التايمز اللندنية في عددها الصادر يوم 9 ديسمبر/كانون الأول 1873. نص التايمز احتوى على كلمة secular ثلاث مرات على الأقل، ولكن الجنان ترجمت كلّاً منها بطريقة مختلفة، لم تتضمّن أيّاً منها كلمة “علماني”.

في المرة الأولى وردت كلمة secular في سياق حديث البابا بيوس التاسع عن إخضاع الأبرشيات في خمس مقاطعات سويسرية لقوانين سنّتها الحكومات المحلّية تحدّد طرق انتخاب وعزل القساوسة. البابا اعتبر هذه القوانين مخالفة لدستور الكنيسة “الإلهي” وإخضاعاً للكنيسة لـ the secular and schismatical power والتي ترجمتها الجنان بعبارة “السلطان المضاد لها والمنشق عنها” (ص 43).

Times_1

Jinan_Encyclical_1

الجنان، العدد 2، سنة 1874، ص 43

وردت كلمة secular مرّة ثانية عندما تحدّث البابا عن ثنائية السلطة من المنظور الكنسي: الأولى “طبيعية” توفر الرعاية لـ human society and secular affairs والأخرى مصدرها “فوق طبيعي” توفر الرعاية اللازمة للسلام والخلاص الروحي. الجنان ترجمت عبارة secular affairs بـ “الأعمال الدنيوية” (ص 45).

Times_2

Jinan_Encyclical_2

الجنان، العدد 2، سنة 1874، ص 45

في المرة الثالثة وردت كلمة secular لدى حديث البابا عن حرص الكنيسة الدائم على تشجيع رعاياها على طاعة سلطة الأمراء أصحاب السيادة وقوانينهم في الـ secular things والتي وردت في الجنان “الأمور المدنية” (ص 45).  

Times_3

Jinan_Encyclical_3

الجنان، العدد 2، سنة 1874، ص 45

السؤال الذي يطرح نفسه هنا، لماذا اختار مترجم المنشور لدى الجنان (وهو على الأرجح سليم البستاني) ثلاث عبارات مختلفة (مضاد للكنيسة، دنيوي، ومدني) لترجمة secular ولم يستخدم كلمة “علماني” في أيٍّ منها؟

في البداية أريد التأكيد أنّ الترجمات الثلاثة ليست غير صحيحة بالضرورة؛ فكلمة secular تحمل في طيّاتها هذه المعاني الثلاث. حقيقةً، عبارة secular affairs في نص التايمز هي ترجمة لعبارة cose del mondo في النص الإيطالي الأصلي والتي تعني حرفياً “أشياء الدنيا”، أي “الأعمال الدنيوية” كما ترجمتها الجنان. كما أن كلمة “مدني” كانت شائعة في ذلك الوقت للإشارة شؤون الإدارة والحكم، وقد استخدمها بطرس البستاني، والد سليم، في سلسلة المنشورات التي وزّعها تحت عنوان “نفير سوريا” بين عامي 1860-1861 إثر مذابح المسيحيين في جبل لبنان ودمشق؛ حيث طالب بالفصل بين “الأمور الدينية” و “الأمور المدنية” كحلّ لمشكلة الطائفية في سوريا (أنظر نفير سوريا، “الوطنية السابعة”، دار فكر للأبحاث والنشر، ص 38).

ولكن السؤال يبقى، لماذا لم يختر سليم البستاني، على افتراض أنه مترجم المنشور، كلمة “علماني” لترجمة secular في هذا المنشور؟ قد يقول قائل بأن هذه الكلمة لم تكن في ذلك الوقت معروفة خارج الأوساط المسيحية، وأنّ البستاني كان حريصاً على الوصول إلى أكبر عدد من القرّاء العرب، بمن فيهم المسلمين. هذا الكلام صحيح تماماً ولا اعتراض عليه. فخلال السنوات الثمانية الأولى من الجنان، لم أعثر على كلمة “علماني” إلا مرة واحدة حتى الآن، حيث وردت في العدد الثالث لسنة 1871 (تاريخ 1 شباط/فبراير، ص 93) كترجمة للعبارة الفرنسيةsécularisation de l’administration (“جعل إدارة الأحكام علمانية”).

على كل حال يبقى السؤال “لماذا لم يستخدم سليم البستاني كلمة “علماني” لترجمة secular؟” باعتقادي سؤالاً افتراضياً لا يمكن إيجاد إجابة شافية عنه. بدلاً عنه يمكن طرح مجموعة من الأسئلة التي تصلح لأن تكون أساساً لمشروعٍ أو بالأحرى مشروعاتٍ بحثية قائمة بحدّ ذاتها: كيف فهم سليم البستاني وغيره من روّاد الصحافة العربية كلمة secular وكيف حاولوا نقلها إلى العربية؟ ما هي العوامل التي أثّرت في عملية الترجمة هذه، سواءً كانت محلّية أم إقليمية أم دولية؟ هل ربط هؤلاء بين الصراعات التي عمّت القارة الأوروبية آنذاك بين الكنيسة والدولة وغيرها من القوى الاجتماعية والصراعات داخل حدود السلطنة العثمانية؛ سواء بين الإصلاحيين والمحافظين في الحكومة، أو بين القيادات الدينية لبعض الطوائف والطبقة البرجوازية الصاعدة، أو بين القيادات الدينية المسيحية في الولايات العربية والسلطات الكنسية في القسطنطينية وروما؟ كيف تداخلت مصطلحات عربية كـ “دنيوي”، “مدني”، “علماني”، “ديني”، “شريعة”، وغيرها مع المصطلحات الأجنبية الواردة وكيف أثّر ذلك على تشكّل الفكر الاجتماعي للنهضة؟

من خلال بحثي الذي أدرس فيه أربع صحف عربية صدرت في بيروت في السبعينيات والثمانينيات من القرن قبل الماضي—وهي ثمرات الفنون (أُسّست من قبل جمعية الفنون الإسلامية)، البشير (من الآباء اليسوعيين)، والنشرة الأسبوعية (البعثة الإنجيلية الأمريكية)، إلى جانب الجنان—سأحاول تقديم مساهمة متواضعة للإجابة عن هذه التساؤلات. ولكن هذا طريقٌ طويل يحتاج لبضع سنوات أخرى من العمل!      

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s