تدور هذه الجلسة من السيمنار حول نشوء القومية العربية وعلاقتها بالفكر الإصلاحي الإسلامي وأيضاً بالنظريات القومية الأوروبية. تتناول الجلسة ثلاثة نصوص لبسام طيبي، وسي إرنست دون، وعزيز العظمة—كل منها يقدم “نسباً” مختلفاً للقومية العربية وكيفية تفاعلها مع تلك التيارات.
النصوص المقررة:
– Tibi, Bassam (1997) Arab nationalism: Between Islam and the Nation-State, 3rd ed., Macmillan, London, p. 116-122, 161-177. للتحميل إضغط هنا
– Dawn, C. Ernest (1991) “The Origins of Arab Nationalism” in Khalidi, R. (Ed.) The Origins of Arab Nationalism, Columbia University Press, p. 3-30. للتحميل إضغط هنا
– Al-Azmeh, A. (1995), “Nationalism and the Arabs”, Arab studies quarterly, Vol. 17 No. 1/2, p. 1–17. للتحميل إضغط هنا
في النص الأول يركّز الباحث الألماني من أصل سوري بسام طيبي (من أجل لمحة عن حياته وتوجهاته الفكرية أنظر الرابط التالي) على أفكار منظّر القومية العربية الأبرز ساطع الحصري وعلاقته بالفكر الإسلامي الوحدوي. يقسم طيبي في الجزء الأول (ص 116-122) تطور القومية العربية إلى ثلاث مراحل: النهضة الأدبية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ التوجه السياسي الليبرالي قبل الحرب العالمية الأولى؛ والمرحلة الرومانسية-الشوفينية التي أعقبت الاستعمار الأوروبي. تميزت المرحلة الثانية حسب طيبي بأنها اتخذت من النموذج البرجوازي الغربي (تحديداً الفرنسي) مثلاً أعلى لها، وبالتالي لم تكن عدائية تجاه القيم الغربية. كما تميزت باعتبارها الوحدة العربية سبيلاً لتحقيق مجتمع ديمقراطي حرّ، وليس غايةً يجب تحقيقها بأي شكلٍ من الأشكال. المرحلة الثالثة، على العكس، اتخذت طابعاً اعتذارياً حادّ العداء تجاه بريطانيا وفرنسا، وجنوحاً في المقابل نحو الأدب القومي الألماني ذي الطابع العرقي-الرومانسي (جيرمانوفيليا Germanophilia بحسب تعبير طيبي). في هذه المرحلة باتت الوحدة العربية هدفاً بحدّ ذاته يجب تحقيقه تحت أي ظرفٍ، حتى لو كان ذلك على حساب الديمقراطية والحريات السياسية.[1]

ساطع الحصري (المصدر: ويكيبيديا)
يوجّه طيبي اللوم إلى ساطع الحصري على هذا التحول، على الرغم من أنه يقرّ بأن الأخير لا يمكن اعبتاره فاشياً أو قومياً متطرفاً. لكن طيبي يصرّ أن الحصري هو من وضع بذور هذا التوجه الذي آتى ثماره عند ميشيل عفلق. في الحقيقة يميّز طيبي بين مرحلتين في فكر الحصري: مرحلة فرانكوفيلية Francophile في شبابه، تميّز بها حتى عن رفيقه ضياء غوكلب، منظّر القومية التركية ذو النزعة الشوفينية؛ ومرحلة لاحقة انقلب فيها الحصري إلى الأدب القومي الألماني الذي ظهر عقب احتلال نابليون للأراضي الألمانية (1806-1807)، وانطبع بنبرة عدائية تجاه فرنسا. طيبي يُرجع هذا التحول من الفرانكوفيلية إلى الفرانكوفوبيّة عند الحصري إلى تجربته الشخصية كممثل للملك فيصل بن الحسين في المفاوضات مع الجنرال الفرنسي غورو “الكاره للعرب” Arabophobe. بالإضافة إلى الحصري، يعتبر طيبي أن التطرف القومي الألماني قد تسرّب إلى القومية العربية عن طريق عدد من الضباط العرب الذين تدرّبوا على يد ضباط ألمان أثناء خدمتهم في الجيش العثماني، قبل أن ينضمّوا لاحقاً إلى الجيش العراقي في ظلّ الملك فيصل. طيبي يعزوا انقلاب عام 1941 الذي أوصل رشيد عالي الكيلاني (ذو الميول النازية) إلى رئاسة الوزراء في العراق إلى تلك الفئة من الضباط.

موكب نابليون بونابرت في برلين بعيد احتلالها على يد القوات الفرنسية في أكتوبر عام 1806 (المصدر: ويكيبيديا)
في الجزء الثاني من نص طيبي، يتناول الكاتب علاقة فكر الحصري بالفكر الإصلاحي الإسلامي. يجادل طيبي بأن الحصري قام بقراءة انتقائية لكتابات الأفغاني والكواكبي ليبرر نظريته القومية. فجمال الدين الأفغاني تخّلى عن دعوته للوحدة الإسلامية بعد خيبة أمله من سياسات السلطان عبد الحميد الاستبدادية، وتبنّى بدلاً عنها منهجاً يعترف بالرابطة القومية كرابطة سياسية ولكن يدعو في الآن ذاته إلى حالة من التضامن الإسلامي في مواجهة الاستعمار الغربي. هذا التحول أعطى الحصري أساساً ليحاجج بأن القومية العربية لا تتناقض مع التوجهات الوحدوية الإسلامية. ولكن مع ذلك فهناك العديد من الاختلافات بين الفكر الإصلاحي الإسلامي وفكر الحصري القومي حسب طيبي. أحد هذه الاختلافات هو الأساس النظري: فبالنسبة لعبده والأفغاني كان فكرهما مبنياً على النظرية السياسية التقليدية في الإسلام (كابن تيمية)، في حين أن الحصرى بنى نظريته على الفكر الأوروبي الرومانسي، فضلاً عن ابن خلدون، وهو ليس منظّراً سياسياً إسلامياً تقليدياً بحسب طيبي. اختلاف آخر هو مصدر العصبية أو التضامن القومي: بالنسبة للحصري فالعصبية القومية تنبع من الفرد، في حين أنها تنبع من القرآن عند عبده والأفغاني.
عبد الرحمن الكواكبي، رغم خلفيته الإسلامية التقليدية، فقد ساهم بحسب طيبي (عن غير قصد) في علمنة مفهوم الأمّة من خلال أمرين اثنين: الأول، إضفاءه طابعاً عرقياً على مفهوم الأمة (أي منحها وجوداً ذاتياً مستقلاً عن الدين)؛ والثاني، تمييزه بين السلطتين الدينية (الخلافة)، والتي وضع الكواكبي عليها قيوداً عديدة، والزمنية (السلطنة)، التي كان لها التصرف في معظم شؤون الحكم، إلى نحو مقاربٍ لما هو موجود في الغرب. بحسب طيبي فقد استفاد الحصري أيضاً من فكر الكواكبي وخصوصاً انتقاده للخلافة العثمانية ومطالبته بخلافة عربية.

طابع سوري بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة عبد الرحمن الكواكبي (المصدر: مجلة صور سوريا)
مع أن الحصري يعتبر أن الديانات العالمية كالإسلام والمسيحية غير صالحة لأن تكون أساساً للوحدة القومية، إلا أنه أقرّ بأهمية الإسلام للعروبة، خصوصاً حفظ اللغة العربية. كما أنه يعتبر الإسلام جزءاً من الثقافة العربية، ولكنه لا يقصر ثقافة العرب على الإسلام.
في النهاية يخلص طيبي إلى أن نظرية الحصري القومية أوروبية المصدر وعلمانية والأصل، وليست “علمنة” لمفاهيم إسلامية تقليدية. ولكن وجود تشابه ظاهري بين الجانبين، بالإضافة إلى توظيف الحصري لبعض الأفكار الإصلاحية الإسلامية، قد ساعد على تقبّل أفكاره العلمانية في بيئة دينية إسلامية. وبالتالي يرفض طيبي الدعوة القائلة بأن القومية العربية استمرارية أو ترجمة لمفاهيم الوحدة الإسلامية.
النص الثاني يعود للمستشرق الأمريكي سي إرنست دون، والذي يقدم فيه نظرة مغايرة لنشوء القومية العربية، تُرجع جذورها الفكرية إلى الفلسفة الإصلاحية الإسلامية، وشعبيتها السياسية لمجموعة من النخب الدمشقية والبيروتية التي—في لحظة انتهازية—غيرت ولاءها من الوطنية العثمانية إلى القومية العربية قبيل تحرير الشام من العثمانيين على يد الثوار العرب القادمين من الحجاز. في بداية النص ينتقد دون ما يسميه النظرية المسيحية لنشوء القومية العربية، والتي كان المؤرخ القومي العربي جورج أنطونيوس أول من طرحها أكاديمياً، وتبنّاها بعده كل من هشام شرابي وبسام طيبي، اللذان اعتبرا (بحسب دون) أن القومية ظاهرة برجوازية خالصة، وأنه عند نشوء القومية العربية كانت البرجوازية العربية مسيحية حصراً.
يشير دون إلى نظرية أخرى لنشوء القومية العربية تبنّاها المؤرخان العراقيان الأصل سيلفيا حاييم وزوجها إيلي كيدوري. هذه النظرية—والتي يمكن تسميتها قياساً بـ “النظرية البريطانية” [تسميتي الخاصة وليست تسمية دون]—تنص أن القومية العربية أُسست من قبل مجموعة من الضباط العرب الذين دعمتهم بريطانيا في نظامي الملك فيصل في العراق والملك فاروق في مصر.[2]
دون من جهته يرى أن الفكر القومي في العالم العربي بشكلٍ عام (العربي منه والقُطري) يعود إلى فكرة الوطنية التي شاعت لدى المصلحين العثمانيين والمصريين في القرن التاسع عشر، ومنهم رفاعة الطهطاوي الذي أدخل مصطلح الوطن إلى العربية كترجمة لكلمة patrie الفرنسية. الوطنية بالنسبة لهؤلاء المصلحين كانت أساساً للإصلاح والتقدم واللحاق بركب الحضارة الأوروبية.
من النقاط التي يركّز عليها دون في نصّه ما يسميه بـ “الكبرياء المجروح” (injured self-view) لدى العرب والأتراك بسبب تفوق أوروبا العسكري. يؤكّد دون أن هذه المشاعر في البداية—لدى هؤلاء المصلحين العثمانيين والمصريين—لم تكن لاعقلانية، ولكنها في نهاية القرن التاسع عشر بدأت تأخذ طابعاً اعتذارياً عاطفياً معادياً للغرب، لدى الإصلاحيين الإسلاميين والمثقفين المسيحيين العرب على حدّ سواء. مع ذلك فقد بقيت هذه الأفكار تحت سقف الوطنية العثمانية، مطالبةً بحكم ذاتي أو استقلالية ثقافية فحسب.
الفكر القومي العربي الصريح يبدأ حسب دون من مجموعة من الأشخاص الذين كانوا في البداية من أتباع حركة الإصلاح الإسلامي كأمير شكيب أرسلان، محمود شكري الألوسي، ومحمد كرد علي. برأي دون أخذ هؤلاء المفكرون أفكار محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ورشيد رضا عن تفوق الإسلام العربي واللغة العربية على الإسلام التركي واللغة التركية وقاموا بتحويلها إلى أيديولوجيا قومية عربية، بعد أن أضافوا بعد العناصر المستوردة من أوروبا كنظرية جيمس بريستيد عن الهجرات الساميّة من الجزيرة العربية.
بحسب دون فإن القومية العربية نتيجة لصراع بين أعيان الشام الذين كان أغلبهم مؤيداً للعثمانيين ومستفيداً من حكمهم، وأقلّية في المعارضة كانت طامحة في الوصول إلى الحكم. دون يصرّ أن هذا الصراع بدأ أثناء الحرب العالمية الأولى، وليس قبلها. فحتى الرأي القائل بأن القومية العربية نشأت سريعاً كرد فعل على حكم جماعة الاتحاد والترقي القومية التركية (والتي تولت الحكم في الدول العثمانية عام 1908) يرفضه دون على اعتبار أنه مجرد اختلاقات دبلوماسيين غربيين—معظمهم بريطانيين—وقوميين عرب متأخرين. فالادعاءات بأن الاتحاديين قد اتبعوا سياسية تتريك ممنهجة أو أنهم كانوا متراخين مع الهجرة الصهيونية إلى القدس لم تكن أكثر من بروباغاندا إعلامية. في النهاية يخلص دون إلى أنه مع دخول الثوار العرب لدمشق عام 1918 ووعود بريطانيا لهم بدولة مستقلة، لم يكن لدى أعيان الشام خيار إلا خلع ثوب العثمانية ولبس ثوب القومية العربية.

أعضاء جمعية العربية الفتاة في بلودان، دمشق عام 1919 (المصدر: ويكيبيديا)
النص الثالث يعود للباحث السوري الكبير عزيز العظمة، والذي يرى أن نظرة دون للقومية العربية على أنها محصلة لصراع بين نخب سياسية محلّية مبالغٌ بها. العظمة من جهته يرى القومية العربية نتيجة جانبية byproduct للوطنية المدنية العثمانية التي نشأت في السلطنة أثناء عهد التنظيمات. فالإصلاحات العثمانية قد أنتجت برجوازية مثقفة (بالألمانية Bildungsbürgertum) ارتبطت بدولة التنظيمات ومشروعها الحداثي: فقد تخرّجت من نظامها التعليمي، وانخرطت في سلكها القضائي والإداري والسياسي، وتشرّبت أفكارها عن التطوير والتقدم. العظمة يرفض تصنيف ثقافة هذه النخبة على أنها أوروبية؛ فصحيح أن أفكارها ومؤسساتها وقيمها قد ظهرت لأول مرة في أوروبا، إلا أنها باتت عالمية بحكم انتشارها وإعادة إنتاجها محلياً (العظمة يشبهها برياضة الكريكيت التي اخترعت في بريطانيا ولكنها أصبحت الرياضة الأكثر شعبية في بعض مستعمراتها التي باتت تتفوق فيها على بلد الأصل).
كان بعض أعضاء هذه البرجوازية العثمانية المثقفة عروبي الثقافة والتوجه، ولكن ذلك لم يشكل تناقضاً بالنسبة لها مع كونها عثمانية. فقد كان هناك وطنية محلية (عربية/سورية/عراقية/مصرية) متعايشة مع وطنية عثمانية جامعة. يعزو العظمة إلى هذه الطبقة أحد أهم الإنجازات الثقافية في تاريخ العرب الحديث، ألا وهو نحت اللغة العربية الحديثة. ولكن اللغة العربية بحدّ ذاتها ليست إلا عاملاً جزئياً في عملية التجانس الثقافية cultural homogenization التي قامت بها هذه الطبقة، والتي كانت أكثر نجاحاً ضمن النخب السياسية والتربوية والعسكرية. بعد الاستقلال عن العثمانيين امتدت عملية التجانس الثقافية هذه من المستوى النخبوي إلى الجماهيري عبر أنظمة التعليم والتثقيف الحكومية. حسب العظمة فإن العالم العربي الآن يتشارك حقلاً ثقافياً سياسياً وأدبياً وفنياً موحداً إلى حدًّ كبير. بعبارةٍ أخرى أصبحت القومية العربية Arab nationality واقعاً ثقافياً لا يمكن إنكاره.

أعلام دول عربية في إحدى مظاهرات الربيع العربي (الأرجح في القاهرة)، المصدر: نون بوست
من الجدير بالذكر أن العظمة، كما طيبي ولكن بشكلٍ مختلف، يقسم الفكر القومي العربي الصريح إلى تيارين: الأول وضعي-تنويري-حداثي (ممثلاً بساطع الحصري وقسطنطين زريق) يعتبر الأمم صنيعة مؤسسات ومشاريع سياسية حديثة ثنفذها الدول؛ فيما الثاني رومانسي-شعبوي-عضوي (ممثلاً بميشيل عفلق وزكي الأرسوزي) يعتبر الأمم موجودة خارج التاريخ وقبل السياسية الحديثة.
رغم إيمان العظمة بالقومية العربية كواقع ثقافي إلا أنه يرى في نزعة القوميين العرب لخلق دول أكبر من دولهم الموجودة “غير طبيعية” unnatural. من ناحيةٍ أخرى يوجه العظمة انتقاداتٍ لاذعة للتيارات تحت القومية sub-national ذات النزعة الماضوية التي تجتاح بعض البلاد العربية، ومنها القومية المارونية في لبنان، والتي اخترعت نسباً فينيقياً لنفسها، بعد أن كانت في الماضي غير البعيد تكتب أشعاراً تفتخر فيها بأصولها العربية اليمنية. تتماشي هذه التيارات—التي تصنف المسيحيين العرب على أنهم “مسيحيين ناطقين بالعربية”—حسب العظمة مع خطابات غربية (بين فاشية، وليبرالية جديدة، وما بعد-حداثية) تتغنى بالخصوصية الثقافوية ومولعة بالبحث عن الساكن الأصلي الأول the ultimate native. برأي العظمة تجسد هذه التيارات إحدى تناقضات العولمة الأساسية: اندماج اقتصادي متمايز في مقابل تفتت سياسي ووهوياتي منظم.
الجلسة القادمة ستتناول صعود الأصولية الإسلامية، من خلال استعراض فكر سيد قطب والتأثير السلفي على جماعة الإخوان المسلمين، بالإضافة إلى تأثر الأصولية الإسلامية بتيارات أخرى غير إسلامية.
[1] ثمناً للوحدة مع مصر عام 1958، قامت الأحزاب السورية بحلّ نفسها وتم تقييد الحريات السياسية بشكل كبيرٍ، وذلك استجابةً لشروط جمال عبد الناصر.
[2] هناك بعض الجدل حول آراء كيدوري عن القومية العربية، وإن كانت تجربته المريرة كيهودي عراقي أثناء الحكم البريطاني قد تركت أثراً عليها. فقد امتنعت جامعة أوكسفورد عن منحه شهادة الدكتوراة عن رسالته عن السياسات البريطانية في الشرق الأوسط بعد أن رفض كيدوري التعديلات التي طلبها أحد المصحّحين، وهو المتستشرق الشهير هاميلتون غيب.
[…] الجلسة القادمة ستتناول نشوء القومية العربية وعلاقتها بالتيارات الفكرية والسياسية الأخرى كالإصلاح الإسلامي. […]