تدور هذه الجلسة حول الظروف التي أدت إلى صعود الأصولية الإسلامية، فتتناول كتابات سيد قطب المؤثرة في هذا المجال، وتحول الإخوان المسلمين—كبرى حركات الإسلام السياسي في العالم العربي—من السلفية الإصلاحية إلى الوهابية، بالإضافة إلى نص من عزيز العظمة يلقي الضوء على السياق العالمي (أيديولوجياً وسياسياً وثقافياً) لهذا الصعود.
النصوص المقررة:
– سيد قطب (1964) معالم في الطريق، daawa-info.net، ص 40-47، 52-66. من أجل تحميل النص إضغط هنا
– حسام تمام (2010) “تسلّف الإخوان”، مراصد، عدد 1، أكتوبر، مكتبة الإسكندرية. لقراءة المقالة إضغط هنا
– Al-Azmeh, Aziz (2003) “Postmodern Obscurantism and ‘the Muslim Question’ ” in Journal for the Study of Religions and Ideologies, No. 5, pp.21-47. للتحميل إضغط هنا
سيد قطب شخصية غنية عن التعريف في العالم العربي؛ وبعد 11 سبتمبر/أيلول، نال إسمه صيتاً لا بأس به في العالم الغربي، فقلّما يخلو وثائقي عن الإرهاب الإسلامي من فقرة مخصصة عنه بصفته (بوجه أو من دون وجه حقّ) الأب الروحي للقاعدة وأخواتها. الجلسة تناولت ثلاثة فصول من كتابه الشهير معالم في الطريق، والذي كُتب أثناء السنوات العشر التي قضاها في سجون جمال عبد الناصر (1954-1964)، قبل أن يعتقل من جديد سنة 1965 ويُعدم في العام التالي.

سيد قطب أثناء إحدى جلسات محاكمته قبيل إعدامه عام 1966 (المصدر ويكيبيديا)
في الفصل الأول “لا إله إلا الله منهج حياة” يوسّع قطب مفهوم العبودية لله من الاعتقاد والعبادة إلى كافة مجالات الحياة بما فيها الشرائع القانونية. وبالتالي فإن المجتمع الذي لا يُحكم بالشريعة الإسلامية هو مجتمع غير مسلم—بحسب قطب—حتى لو كان أفراده مؤمنين بالعقيدة الإسلامية ومقيمين للشعائر الإسلامية. أطلق قطب على هذا المجتمع صفة “الجاهلية“، وهو استخدامٌ جديدٌ للمصطلح الذي كان يشير حصراً إلى حالة العرب قبل ظهور الإسلام.
ربط قطب جاهلية المجتمع بجعل “الحاكمية” لغير الله، وهذا مصطلح جديد تماماً غير موجود في الفقه الإسلامي، بما فيه الحنبلي-السلفي.[1] فالحاكمية لله تعني أن لا سلطة في المجتمع على المستوى التشريعي، التنفيذي، القضائي، أو حتى الأخلاقي مستمدّة من غير الله. فإن كانت مستمدّة من آلهة وثنية، أو “من هيئات مدنية ’علمانية‘ “، أو من أفراد، أو حتى من رجال الدين (قطب يرفض صراحةً أي سلطة لطبقة مختصّة من رجال الدين، كما في إيران حالياً)، فالمجتمع جاهلي بغضّ النظر عن ديانة أفراده وممارساتهم.
لا تمثل الحاكمية بالنسبة لقطب، كما يذكر في فصل “الإسلام هو الحضارة“، تحرراً للإنسان من “عبادة” البشر (في إشارة إلى عبد الناصر على الأرجح) فحسب، بل ومن الروابط القومية والعرقية والقبلية أيضاً، والتي تشكّل بنظره روابط جاهلية “متخلّفة” لأنها مفروضة على الفرد بالولادة. في حين أن المجتمع “المتحضّر” برأيه هو المجتمع القائم على العقيدة والمنهج والفكر، والتي يملك المرء تغييرها بملئ إرادته.
يشدّد قطب على أن الفكر والمنهج الإسلاميين، الآتيين من خارج المحيط البشري، يشكّلان “الحركة” التي تولّد المجتمع الإسلامي وتحافظ على ديدناميكيته. فالمجتمع الإسلامي يتشكّل من نواة من الأفراد [طليعة ثورية؟] تتبنّى هذه العقيدة والمنهج ثم تفصل نفسها عن المجتمع الجاهلي لتبدأ “المعركة” بين المجتمع الإسلامي الطليعي الذي يجعل الحاكمية لله والمجتمع الجاهلي حيث العبودية لغير الله. (أنظر كتيب لينين ما العمل؟ الذي يقدّم فيه نظرية مشابهة للتغيير الثوري).

وجد الكثيرون تشابهات عديدة بين نظرية لينين في التغيير الثوري ونظرية قطب، مصدر الصورة (بي بي سي)
في الفصل الأخير “التصور الإسلامي والثقافة“، يؤكّد قطب أن الحاكمية لا تشمل التشريع بمعناه الضيق، بل كافة مناحي المجتمع والثقافة، بما فيها الأخلاق والمعرفة والاقتصاد والفنون والآداب. بينما يقرّ قطب بأن هناك معرفة إنسانية عالمية يمكن للمسلم أن ينهلها من أيّ مصدر، إلا أنه يحصرها بالعلوم التقنية والطبيعية. أما فيما يتعلّق بالعلوم الاجتماعية والإنسانية والدينية، فلا يمكن التفريق حسب قطب بين المعرفة ومصدرها؛ أي لا يمكن أخذها من شخصٍ لا يُثق بدينه. بهذا الشكل يصبح الفضاء المعرفي للمسلم في التصور القطبي فضاءً مغلقاً محصناً من أي تنافر معرفي cognitive dissonance، فأي حجّة يأتي بها شخص مخالف بالتفكير (حتى لو كان مسلماً) مردودٌ عليها سلفاً بـ “ورقة جوكر” أن مصدرها غير إسلامي وبالتالي فهي باطلة. من اللافت للنظر أن نقد قطب للمعارف الاجتماعية لا يبتعد كثيراً عن النقد المابعد حداثي، حيث كل معرفة ظنّية تدلّ على مصدرها أكثر مما تدلّ على موضوعها.
لست هنا بصدد إطلاق أحكام على مسؤولية قطب المزعومة عن التطرف الإسلامي الذي يجتاح أجزاء عديدة من العالم، فهناك نزعة لدى المجتمعات البشرية لتعليق ذنوبها على فردٍ محدّد بذاته ومن ثم رجمه جسدياً أو فكرياً. ولكن يمكن للمرء أن يُعلّق موضوعياً على جانبين متعلّقين بفكره.
الأول هو الأسباب التي دفعت قطب لتبنّي هذه الأفكار. فهذا النص نتيجة للبئية القمعية التي سادت العديد من البلاد العربية في مرحلة ما بعد الاستقلال، حيث أصبح الاعتقال السياسي والتعذيب وتأليه الحكام واقعاً يومياً دفع البعض باتجّاه صورة خيالية لمجتمع إسلامي نقي أفراده أحرار سواسية. البيئة الأخرى التي قد تكون قد تركت أثراً على تفكير قطب هي الولايات المتحدة، حيث عاش بين عامي 1948 و1950. فضلاً عن المادّية والتحرر الجنسي، فقد راعه هناك العنصرية، والتي ربما قد تعرّض لها شخصياً هناك بسبب بشرته الداكنة.

الفصل العنصري في الولايات المتحدة (المصدر: بينترست)
الجانب الثاني هو “الابتداع” في أفكار قطب. فعلى الرغم أن الإسلاميين المتشدّدين كثيراً ما يرمون خصومهم من الإصلاحيين أو الليبراليين بالابتداع في الدين، إلا أنه من الواضح من كتابات قطب أن الفكر الإسلامي—حتى المتشدّد منه—مفتوح على “البدع” الأيديولوجية الحديثة من أقصى اليمين (كالفاشية، أنظر عرض مقالة العظمة أدناه) إلى أقصى اليسار (كاللينينية المشار إليها أعلاه). تبرير أفكارهم بنصوص دينية لا يجعلها إسلامية، فالليبراليون والإصلاحيون يفعلون ذلك أيضاً. ما يحدّد أي من الخطابين “إسلامي” وأيهما “غير إسلامي” هو الموارد والظروف الاقتصادية والسياسية والإعلامية والثقافية.
النص التالي عبارة عن دراسة مختصرة ولكن وافية ومعمّقة لعلاقة الإخوان المسلمين في مصر بالفكر السلفي. في هذا النص يشير حسام تمام—الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية—إلى أن التوجه السلفي كان موجوداً في فكر الإخوان المسلمين منذ بداياته، ولكنه كان توجهاً سلفياً-إصلاحياً على خطا رشيد رضا، معنياً بشكلٍ أساسي بتعزيز الرابطة الإسلامية الجامعة وإعادة الهوية الإسلامية إلى الحياة العامة. فالسلفية الإخوانية الأولى اهتمت بالجانب الحركي وتجنّبت الجدل العقائدي مع أتباع المذاهب والديانات والتوجهات الأخرى (كالصوفية والأشعرية والشيعة والقبطية وغيرها). كما كانت مرنة من ناحية الممارسة والاعتقاد، كما تجلّى في إقامة الإخوان لاحتفالات المولد النبوي، وعدم رفضهم لزيارة القبور (من دون التبرّك بها)، ولباسهم الذي كان لا يختلف عمّا يلبسه المحافظون من أبناء الطبقة الوسطى في مصر. وقد عبّر حسن البنّا مؤسس حركة الإخوان المسلمين عن ذلك التوجه بوصفه إيّاها أنها:
دعوة سلفية وطريقة سنية وحقيقة صوفية وهيئة سياسية وجماعة رياضية ورابطة علمية ثقافية وشركة اقتصادية وفكرة اجتماعية.
الموجة الأولى لـ “تسلّف الإخوان” (باتجاه السلفية الوهابية) حدثت في الخمسينات—بحسب تمام—نتيجةً للقمع الناصري الذي دفع العديد من قيادات الجماعة إلى الهجرة إلى السعودية، حيث تأثروا هناك بالفكر الوهابي القائم على النقاء العقائدي ورسم حدود صارمة بين ما هو إسلام “صحيح”، “نقي”؛ وإسلام آخر “مزيّف”، “مبتدع”. رغم ذلك بقي التسلّف الإخواني آنذاك نخبوياً هادئاً بحسب تمام، ولمّا ينتقل بعد إلى جماهير الحركة بشكلٍ واسع.

الباحث المختص في الجماعات الإسلامية حسام تمام
ولكن الأمر تغير في نهاية الستينات وبداية السبعينات مع تردّي الأوضاع الاقتصادية في مصر وهجرة أعداد هائلة من المصريين إلى الخليج؛ خصوصاً السعودية، التي احتاجت إلى كوادر بشرية مؤهلة لدفع عملية التحديث التي أطلقها الملك فيصل بن عبد العزيز (1964-1975) وموّلتها الطفرة النفطية. هذا الجيل من العمالة المصرية في السعودية عاد إلى مصر مُشبّعاً بالأفكار الوهابية في المعتقد والممارسة، خصوصاً في مجال اللباس والعلاقة بين الجنسين. ترافق ذلك مع تضعضع المشروع التحديثي الناصري بعد هزيمة 1967 والتوظيف الرسمي للدين لامتصاص الاحتقان الشعبي الناتج عن ذلك (سنتعرض لذلك في الجلسة القادمة). في الآن ذاته حدث تحول جذري في توجه مصر الخارجي في ظل “الرئيس المؤمن” أنور السادات، من المحور القومي-الاشتراكي إلى المحور السعودي-الأمريكي. أدّى ذلك إلى ترخية القيود الحكومية على المجال الديني في مصر وفتحه أمام التأثيرات الخارجية.
المستفيد المباشر من هذا الانفتاح على النشاطات الدينية لم يكن الإخوان أنفسهم، بل المجموعات الإسلامية الشبابية التي نشطت في بعض الجامعات المصرية وتبنّت نهجاً قطبياً متشدداً، كما تمتّعت بدعم مالي خليجي تمثّل في كتب وحملات مجانية للحج والعمرة. هذه المجموعات الإسلامية مثّلت “الجيل القرآني” (حسب التعبير القطبي) الذي قام بعزل نفسه “شعورياً” عن المجتمع من خلال تبنّي نمط حياة وملبس مخالف تماماً لمجمل المجتمع المصري (ما يُسمّى بـ “الهدي الظاهر“)، ومن ثم العمل على “أسلمة” المجتمع ابتداءً من الجامعات. اتّجه بعض أفراد هذه الجماعات إلى العمل الجهادي المسلّح فيما شكّل البعض الآخر الرافد البشري الذي أمدّ جماعة الإخوان المسلمين المنهكة بدماء جديدة بعد عقدين تقريباً من الاضطهاد الناصري. تمام يذكر تفصيلاً مهماً في هذا السياق: فقد حدثت سلسلة لقاءات عامي 1975 و 1976 بين قيادات الإخوان وتلك المجموعات الطلابية، قام على إثرها الإخوان بالابتعاد ضمنياً عن سلفية البنّا الإصلاحية (التي كانت موضع تحفّظ هؤلاء الشباب) وبتبنّي مبدأهم في “الهدي الظاهري”، من قبيل إطلاق اللحية و”اللباس الشرعي” وتحريم الفنون وغيرها.

حسن البنا مع عائلته (المصدر: إخوان ويكي)
استمر التزاوج بين حركة الإخوان والسلفية الوهابية في الثمانينات، حيث أصبح السلفيون أكثر انخراطاً في العمل الحركي الاجتماعي فيما بات الإخوان أكثر تشدّداً من الناحية الأيديولوجية-العقائدية. بحلول عقد التسعينات الذي ترافق مع شيوع البث الفضائي وظاهرة الدعاة المستقلّين والمؤسسات الخيرية وجمعيات إحياء التراث، بات المعروض الديني [“البضائع الدينية” religious benefits بحسب مصطلح ماكس فيبر] في الشارع المصري سلفياً بامتياز، مما دفع جماعة الإخوان المسلمين إلى الاتجاه أكثر نحو السلفية تماشياً مع الإقبال المتزايد على هذا النوع من البضاعة في السوق الديني religious market.
التحول الإخواني من مشروع استعادة الهوية الإسلامية والدعوة التوفيقية في عهد حسن البنّا إلى “أرثوذوكسية جديدة” (Neo-orthodoxy) سلفية-قطبية “مفارقة للثقافة والمجتمع” اكتمل حسب تمام في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. فتم إبعاد أو تهميش بقايا التيار الإخواني الإصلاحي، كعضو مكتب الإرشاد عبد المنعم أبو الفتوح الذي ترك الجماعة لاحقاً.
في النص الأخير يُرجع عزيز العظمة أصول حركات الإسلام السياسي إلى عدد من “الميليشيات” والأندية الرياضية الشبابية ذات الطابع “شبه الفاشي” (proto-fascist) التي أُنشأت في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي. بحسب العظمة فقد تم توظيف هذه التيارات أثناء الحرب الباردة في إطار ما يسمى بـ “عقيدة ترومان” الأمريكية، والتي قامت على دعم حكومات وتيارات يمينية محافظة لاحتواء المدّ الاشتراكي المدعوم سوفيتياً في العديد من أنحاء العالم الثالث. في المنطقة العربية تجلّى هذا الحلف في تعاون وثيق بين الملكيات العربية التقليدية (إلى جانب إيران تحت حكم الشاه) والولايات المتحدة في مواجهة الأنظمة القومية العربية ذات التوجه الاشتراكي. هذا الدعم لم يكن سياسياً ومالياً فحسب، بل ثقافياً أيضاً (ما يسميه العظمة بـ “حلف بغداد الثقافي“). وقد وصل إلى ذروته في ظاهرة المجاهدين العرب في أفغانستان.

الرئيس الأمريكي هاري ترومان (1945-1953) الذي عمل على احتواء الشيوعية من خلال العقيدة التي عرفت باسمه (المصدر: ويكيبيديا)
العظمة يؤكد أن هذا التيار بقي هامشياً حتى منتصف السبعينيات، عندما بدأت مؤسسات الدولة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في التراجع تحت وطأة ضغوط اقتصادية داخلية وخارجية. تعزز هذا الاتجاه مع انهيار المعسكر الشرقي وفرض الليبرالية الجديدة على العديد من الاقتصادات النامية بواسطة البنك الدولي، الذي بات يبشّر بالسوق الحرة على نحو لاهوتي („natural theology of the free market“). تحرير الأسواق العربية اقتصادياً ترافق مع تحرير ثقافي أيديولوجي بنيوي تجلّى في دخول المؤسسات الخيرية واللاحكومية (الدينية منها والغربية) لملئ الفراغ الذي تركته الدولة في مجال الخدمات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. العظمة يتهم هذه المؤسسات برعاية خطابات الأصالة والخصوصية الثقافوية culturalist differentialism والولع بالماضي، بل حتى “استطباق التخلّف” (gentrification of backwardness).
يعتبر العظمة بروز هذا التيار ناتجاً جانبياً byproduct للعلمنة في العالم العربي. فمن ناحية مفاهيمية، لا معنى للخطاب الإسلاموي في مجتمع ما قبل الحداثة، حيث الدين متداخل مع (وليس بالضرورة مسيطر على) مختلف جوانب الحياة. فقط بعد أن يتم فصل الدين عن هذه الجوانب ككيان منفصل واضح الحدود والمعالم، يمكن الحديث عنه كنظام تام متجانس داخلياً، يمكن أن يشمل جميع نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية. فضلاً عن ذلك يستخدم الإسلام السياسي القوالب الأيديولوجية لتيارات ما بعد التنوير اللاعقلانية بأشكالها المختلفة (الرومانسية السياسية، الإحيائية، الثقافوية، إلخ) بعد أن يغلّفها بمواد رمزية إسلامية. فكما ذكرنا أعلاه في حالة سيد قطب، مفافيهم الجاهلية والحاكمية والحركة قد تكون إسلامية في الظاهر، ولكنها من ناحية المضمون مأخوذة من تيارات غربية جاءت رداً على العقلنة والتنوير والحداثة، فالعظمة يؤكد أن الإسلام الماضوي التخيلي المطروح من الإسلام الأصولي له علاقة بهيردر وشبينغلر أكثر منه بالنبي محمد أو القرآن. فـ “الأصالة” عند الإسلاميين ليست “أصيلة” بل “هوية مزيفة” بحسب العظمة. أخيراً، منظروا الإسلام السياسي بأغلبهم خريجوا نظام تعليمي علماني وليس إسلامي تقليدي، كما هو الحال مع سيد قطب وعلي شريعتي في إيران. في الحقيقة الإسلام الأصولي يعادي الإسلام التقليدي المتداخل مع المجتمع، وهذا ما يفسر العنف الشديد الذي تحتاجه الجماعات الإسلامية لفرض رؤيتها المتخيلة للإسلام على المجتمع.
العظمة لا يرى في صعود الإسلام الأصولي ظاهرة خاصة بالعالم الإسلامي، بل جزءاً من ظاهرة عالمية تشمل أوروبا (أحزاب اليمين المتطرف) والهند (حركة راشتريا سوايامسيواك سانغ) وإسرائيل (الصهيونية اليمينية) وغيرها؛ سبّبتها ظروف مشابهة (تراجع دولة الرفاه الاجتماعي، توحّش الليبرالية الجديدة، إلخ)، وتستمد مواردها الأيديولوجية من الينابيع ذاتها (الرومانسية السياسية، الإحيائية، الثقافوية، إلخ). سواء ظهرت هذه الحركات على شكل رجعية دينية أو فاشية عنصرية معادية للأجانب، فجميع هذه التيارات تتشارك الخطاب الشعبوي اللاعقلاني، والتصور الأخروي عن حرب كونية بين الحضارات.

أنصار حركة راشترا اليمينية الهندوسية (المصدر: فاينانشال إكسبرس)
يؤكّد العظمة مراراً في مقالته أن النزعة النسبوية ما بعد الحداثية لبعض الاتجاهات في العلوم الاجتماعية المعاصرة يجعلها نظيرة الخطاب الأصولي في التأكيد على خصوصية ثابتة عبر التاريخ تشمل كافة نواحي الحياة في المجتمعات الإسلامية. وبالتالي تصبح المعارف وأنظمة الحكم والقيم العقلانية التي ظهرت في الغرب غير صالحة ودخلية على العالم الإسلامي. وهذا جلي في نص سيد قطب المذكور أعلاه، الذي ينتقد فيه العلوم الاجتماعية التقليدية بشكلٍ يتماهى مع خطاب ما بعد الحداثة.
الجلسة القادمة ستتناول النقاشات والمناظرات الساخنة عن الدين والعلمانية التي سادت العالم العربي في الجزء الأخير من القرن الماضي.
[1] من الظاهر أن قطب قد استعار مصطلحي الجاهلية (المعاصرة) والحاكمية من أبي الأعلى المودودي (1903-1979) منظّر الجماعة الإسلامية في باكستان، ولكن لم يحظيا بذلك الانتشار أو لم يأخذا هذا المعنى الشمولي قبل أن يتبنّاهما سيد قطب.
[…] الجلسة القادمة ستتناول صعود الأصولية الإسلامية، من خلال استعراض فكر سيد قطب والتأثير السلفي على جماعة الإخوان المسلمين، بالإضافة إلى تأثر الأصولية الإسلامية بتيارات أخرى غير إسلامية. […]
Thanks for thiss