مع هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، قرّر الحلفاء اقتطاع جزءٍ من الأراضي الألمانية من أجل إقامة وطنٍ قومي لليهود الناجين من المحرقة النازية. بعدها بثلاث سنوات، تحديدًا في 14 مايو/أيار عام 1948، تم الإعلان عن ولادة “الدولة اليهودية” على أراضي ولاية ساكسونيا في شرق ألمانيا وعاصمتها مدينة درسدن. كان هذا الإعلان ثمرة جهود المفكّر والناشط السياسي اليهودي-الألماني ليوبولد شتاين، الذي نجح في انتزاع موافقة زعماء دول الحلفاء الثلاثة الكبار (جوزيف ستالين، فرانكلين روزفلت، وونستون تشرشل) على مشروع “الدولة اليهودية” أثناء اجتماعهم في مؤتمر يالطة الشهير في فبراير/شباط عام 1945، كما نجح في إقناع يهود أوروبا بأن حلم إقامة وطنٍ قومي لهم ما زال ممكنًا رغم فشل محاولاتٍ سابقة في فلسطين وأوغندة وبيروبيجان (في شرق روسيا).
هذا السيناريو التخيلي هو الأساس الذي تبني عليه الكاتبة الأمريكية سيمون زيليتش روايتها “الدولة اليهودية” الصادرة عن دار تور في نيويورك عام 2016. رغم أن الرواية باللغة الإنجليزية إلا أن عنوانها هو كلمة Judenstaat (يودينشتات) باللغة الألمانية، وهو العنوان الأصلي لكتاب “الدولة اليهودية” لثيودور هرتزل (الأب الروحي للحركة الصهيونية)، الذي نظّر فيه لقيام دولة يهودية على أرض فلسطين.
كتبت منذ بضعة شهور مراجعةً مفصّلة لهذه الرواية، تم نشرها مؤخراً على موقع مركز دراسات الوحدة العربية. تتناول هذه المراجعة الأبعاد التاريخية والسياسية لهذه الرواية وإسقاطاتها على أرض الواقع. كما تتساءل عن طبيعة النقاش عن معاداة السامية في ألمانيا لو كان هناك دولة يهودية مقامة على قطعة من أراضيها. للاطّلاع على هذه المراجعة، الرجاء الضغط على الرابط التالي: نبذة عن تاريخ “الدولة اليهودية” في ألمانيا.
ولكن سأقدّم في هذه التدوينة المختصرة لمحة سريعة عن “الدولة اليهودية” علّها تثير فضول القارئ العربي وتحثّه على قراءة هذه الرواية ذات الأبعاد السياسية والتاريخية العميقة.
بطلة رواية “الدولة اليهودية” هي موظفة في المتحف الوطني في مدينة دريسدن تُدعى يوديت كليمر، أوكل إليها مهمة إخراج فيلم وثائقي بمناسبة احتفالية “الدولة اليهودية” بالذكرى الأربعين لتأسيسها في مايو/أيار عام 1988. ولكن أثناء عملها في غرفة الأرشيف، تتلقى يوديت رسالةً مجهولة المصدر تخبرها بأن السلطات قد كذبت عليها بشأن جريمة مقتل زوجها هانز كليم قبل أربع سنوات أثناء قيادته لعرضٍ موسيقي للأوركسترا الوطنية في الدولة اليهودية. بحسب الرواية الرسمية، فقد قتل كليم الذي ينتمي للأقلية الألمانية في الدولة اليهودية، برصاص قنّاصٍ نازي بسبب زواجه من امرأة من الأغلبية اليهودية. تقود هذه الرسالة كليمر في رحلة بحث عن حقيقة مقتل زوجها تكتشف من خلالها أسراراً مثيرة عن القمع الذي تمارسه هذه الدولة من خلال جهاز أمن الدولة (الشتاسي) سواءً ضد الأقلية الألمانية أو ضد مواطنيها الأممين الذين رفضوا أيديولوجيتها القومية أو ضد المتدينين الرافضين لتوجهها العلماني.
من السهل رؤية التقاطعات بين هذه الرواية والقضية الفلسطينية، ولكن إسقاطاتها على أرض الواقع لا تقتصر على ذلك. فالرواية تتناول العديد من الصراعات في داخل المجتمع الإسرائيلي والمجتمعات اليهودية حول العالم من قبيل العلاقة بين العلمانيين والمتدينين والجدل حول الهوية الثقافية واللغوية. ولكن يبقى المشروع الصهيوني هاجساً رئيسياً فيها. فمن خلال تخيّل إقامة وطن قومي بديل لليهود في ألمانيا تنزع الرواية عن إسرائيل حتميتها التاريخية المزعومة بأنها “عودة” اليهود لموطنهم الأصلي. بعبارة أخرى، تلمّح الرواية إلى أنّ قيام دولة إسرائيل كان نتيجة لظروف دولية وتاريخية معينة، ولو كانت هذه الظروف، وعلى رأسها إرادة الدول العظمى، غير ذلك لما قامت هذه الدولة أو قامت في مكانٍ آخر، كألمانيا مثلاً. فإن كانت دول الحلفاء قد اقتطعت أجزاءً من ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية وقسّمتها إلى دولتين شرقية وغربية، فمن الممكن تصوّر سيناريو تاريخي يتضمّن أن تشمل هذه الاقتطاعات دولةً لليهود الناجين من المحرقة النازية.
تسلّط الرواية أيضاً الضوء على العلاقة التاريخية واللغوية والثقافية بين يهود أوروبا وألمانيا، والتي كان من الممكن أن تكون أساساً ايديولوجياً للدولة اليهودية لا يقلّ متانةً عن الأساس التوراتي الذي بنيت عليه دولة إسرائيل. فالدول القومية في نهاية الأمر مجتمعات متخيلة، وبالتالي من الممكن دائماً تخيلها بصورة مختلفة، وهذا بالضبط ما تقوم به هذه الرواية بخصوص إسرائيل، وهنا بالتحديد تكمن أهميتها، خصوصاً بالنسبة للقارئ الغربي، الذي تم تنشئته على الفكرة القائلة أن إسرائيل هي الجواب المنطقي والوحيد لمشكلة الشتات اليهودي ومعاداة السامية. فمن الممكن تخيل حلّ آخر للمسألة اليهودية يكون فيه القمع والعنف والتهجير على حساب الإنسان الغربي الأبيض وليس على حساب الشعوب العربية.
صورة المقالة: خريطة “الدولة اليهودية” (المصدر: مدونة مؤلفة الرواية)