تعالج هذه الجلسة الجهود العربية الأولى في مجال الصحافة، والتي تركّزت في بيروت، مصر، واسطنبول، بالإضافة إلى المهجر الأوروبي. عدا عن ذلك، تناولت الجلسة نصّين باللغة العربية: الأول مقتطف من صحيفة المبشر التي أصدرتها السلطات الفرنسية في الجزائر؛ والثاني خطبة للصحفي والموسوعي اللبناني بطرس البستاني عن حالة العلوم والآداب عند العرب في العصور الغابرة والحاضرة.
النصوص المقررة:
Ayalon, A. (1995), The Press in the Arab Middle East: A History, Oxford Univ. Press, New York, pp. 28-49.
دوق دومال (1847) “إعلام لجميع العرب“، في صحيفة المبشر، ج1، ع3.
البستاني، بطرس (1859) “خطبة في آداب العرب“، في قزما خوري، الجمعية السورية للعلوم والفنون 1847-1852، دار الحمراء، بيروت، ص 101-117.
كبديل عن نص أيالون الإنجليزي، بإمكان القارئ العربي الاطلاع على الفيلمين الوثائقيين التاليين: تاريخ الصحافة العربية – لبنان ج1 و تاريخ الصحافة العربية – مصر ج1
لتحميل نص ما، إضغط على العنوان.
1. ريادة الصحفيين اللبنانيين
رغم أن الصحافة العربية قد نشأت في أماكن مختلفة (بيروت، مصر، اسطنبول، والمهجر الأوروبي)؛ إلا أنه في جميع هذه الأماكن كان للصحفيين المسيحيين ذوي الأصول السورية (اللبنانية تحديداً) الدور الأكبر في إنشاء الصحف العربية الأولى وإدارتها وكتابة محتوياتها. لهذا يفتتح آمي أيالون نصّه بالتساؤل عن السبب الذي جعل اللبنانيين أصحاب السبق في هذا المجال. يرجع أيالون ذلك إلى عاملين أساسيين: التنوع الديني في جبل لبنان—خصوصاً من جهة الطوائف المسيحية—والنشاط التبشيري المكثّف هناك. فالبعثات التبشيرية العاملة في جبل لبنان ركّزت على التعليم باعتباره الوسيلة الأمثل لكسب أتباعٍ جدد، مما أثار تنافساً محموماً فيما بينها (خصوصاً بين المرسلين الإنجيليين الأمريكان واليسوعيين الكاثوليك) في مجال افتتاح المدارس والمطابع، وإنشاء الصحف والجمعيات العلمية. هذا التنافس امتدّ إلى الكنائس المحلّية التي راعها رؤية أبنائها يدخلون مدارس “الكفرة” أو يقرؤون صحفهم، فبادرت إلى إنشاء مدارسها وصحفها الخاصة. النتيجة غير المباشرة لهذه “التسابق التربوي” المحموم (إن صحّ التعبير) هو بروز طبقة فائضة من المتعلّمين أصحاب الخبرة في مجال الصحافة والنشر هاجرت إلى دول أخرى وأدخلت الصحافة العربية الخاصة إليها.
الدور الريادي للمسيحيين اللبنانيين ولنظرائهم في بقية أنحاء سوريا العثمانية يتجلّى واضحاً عند تفحّص أي قائمة بالصحف العربية الأولى. فعلى سبيل المثال، أنشأت صحيفة مرآة الأحوال—وهي أولى الصحف العربية الإخبارية الخاصة بحسب أيالون—في اسطنبول عام 1855 من قبل تاجرٍ أرمني كاثوليكي من أصول حلبية هو رزق الله حسون. فمع اندلاع حرب القرم (1853-1856) بين روسيا من جهة وتحالف مكون من السلطنة العثمانية وبريطانيا وفرنسا من جهةٍ أخرى، نشأ لدى العامّة تعطّش لأخبار الحرب، كما أن توفر التلغراف (الذي جاء به الجيش البريطاني) وفّر وسيلةً سريعة للحصول عليها، فقام حسون بإصدار صحيفته وتوزيعها ضمن الجالية العربية الكبيرة نسبياً في عاصمة السلطنة.
لم تدم مرآة الأحوال طويلاً، كما لم يصلنا منها أي نسخة، لذلك مكانتها في تاريخ الصحافة العربية شرفية في المقام الأول. ولكن هذا الأمر لا ينطبق على حديقة الأخبار التي أسّسها خليل خوري (روم أرثوذوكس، من مواليد الشويفات 1836) في بيروت عام 1858، والتي تعد أول مشروعٍ صحفي عربي ناجح. فقد امتلكت حديقة الأخبار كافة العناصر الأساسية في أي صحيفة: مقالة افتتاحية editorial؛ قسم للأخبار “الداخلية” (أخبار مدينة بيروت) وآخر للأخبار “الخارجية”؛ أقسام للمقالات الأدبية والعلمية؛ بالإضافة إلى توفير خدمة الاشتراك (أي الدفع المسبق)؛ والصدور المنتظم على مدى فترة طويلة (صدرت أسبوعياً على مدى نصف قرن تقريباً). فضلاً على ذلك، لم تكن حديقة الأخبار موجّهة إلى شريحة ضيقة من المجتمع، كما هو الحال في الوقائع المصرية والصحف الحكومية الأخرى التي كانت مخصّصة لموظفي الدولة، بل قدّمت نفسها على أنها صحيفة موجهة لعامة الناس من دون تخصيص.

الصفحة الأولى من أحد أعداد صحيفة حديقة الأخبار من عام 1862، المصدر: تويتر
بعد خليل خوري، قام لبناني آخر هو أحمد فارس الشدياق (مواليد عشقوت 1804، منطقة كسروان)، بإنشاء إحدى أهم الصحف العربية المبكّرة، ألا وهي الجوائب، والتي صدرت في اسطنبول عام 1862 واستمرت لنحو عقدين من الزمان. لا يعود نجاح الجوائب إلى موهبة الشدياق الأدبية واطلاعه الواسع وخبرته السابقة في العمل الصحفي في كل من الوقائع المصرية ونظيرتها التونسية الرائد التونسي فحسب، بل أيضاً إلى الدعم المالي من الحكومة العثمانية التي تدخلت أكثر من مرة لاستخلاص الصحيفة من أزماتها المادية.

أحمد فارس الشدياق، المصدر
إلى جانب حديقة الأخبار والجوائب، يعتبر البعض نفير سوريا—وهي سلسلة من 11 منشوراً كتبها ووزّعها بطرس البستاني (من مواليد الدبية 1819، منطقة الشوف) في بيروت بين عامي 1860 و1861—واحدة من أوائل الصحف العربية. ولكن في الحقيقة لم يكن كل “عدد” (أو منشور بالأحرى) من نفير سوريا سوى خطاباً مكتوباً بقلم البستاني يدعو فيه أبناء وطنه سوريا إلى نبذ التعصب والاقتتال الطائفي بعيد مذابح دمشق وجبل لبنان. لنفير سوريا مكانة هامة على مستوى تطور الوعي الفكري-السياسي في العالم العربي، فقد حملت أولى الدعوات الصريحة للوحدة الوطنية على أساسٍ غير ديني، ولكن مكانها ليس في تاريخ الصحافة العربية.
على أية حال، كان لبطرس البستاني دورٌ رائدٌ في تطور الصحافة العربية، ولكن هذا الدور لم يلعبه حتى عام 1870 عندما أصدر صحيفة الجنان—أولى المجلات العربية الأدبية-العلمية والتي سنتناولها بتفصيلٍ أكبر في الجلسة التالية—بالإضافة إلى صحيفتي الجنة الأسبوعية والجنينية شبه اليومية في العام التالي. في الحقيقة، مثّلت جهود البستاني الصحفية فاتحة نهضة الصحافة العربية في بيروت في عقد السبعينيات من القرن التاسع عشر، الذي شهد تأسيس عشرات الصحف: كالزهرة (1870، يوسف الشلفون) والنحلة (1870، لويس صابونجي) والمقتطف (1876، يعقوب صروف وفارس نمر) ولسان الحال (1877، خليل سركيس). على هذا الأساس يمكن اعتبار ذلك العقد بداية تشكّل ما يمكن تسميته بقطاع إعلامي عربي حقيقي عوضاً عن بضعة صحف متفرقة تصدر هنا وهناك.

غلاف العدد الأول من صحيفة الجنان، كانون ثاني/يناير 1870
بقيت الصحافة العربية حكراً على المسيحيين السوريين (إذا استثنينا الشدياق الذي ولد مارونياً، ثم أصبح بروتستانتياً، قبل أن يتحول إلى الإسلام) حتى قيام جمعية الفنون الإسلامية في بيروت بإصدار صحيفة ثمرات الفنون عام 1875. منذ البداية أشرف الشيخ عبد القادر القباني—أحد أبرز وجهاء بيروت المسلمين—على تحريرها وإدارتها وتمويلها، قبل أن يسلّمها إلى أحمد طبّارة بعد توليه رئاسة بلدية بيروت عام 1898. من الجدير بالذكر أن ثمرات الفنون لم تكن صحيفة تقليديةً محافظةً شديدة الولاء للسلطات العثمانية كما وصفها أيالون. فقد تبنّت الصحيفة، خصوصاً عندما كانت تحت إشراف عبد القادر القباني، آراءً إصلاحيةً، مثل تعليم المرأة، واصطدمت برجال الدين المسلمين التقليديين مراتٍ عديدة. كما أنها أثارت ريبة السلطات العثمانية أثناء ولاية مدحت باشا الذي كانت محسوبةً عليه وعلى توجهه الإصلاحي.

عبد القادر القباني، المصدر: عائلة القباني
2. الاتجاه غرباً نحو مصر
حتى بداية السبعينيات من القرن التاسع عشر، اقتصرت الصحافة في مصر على الصحف الحكومية أو تلك الناطقة باللغات الأجنبية، ولكن مع نهاية ذلك القرن تحولت مصر لتصبح مركز الصحافة العربية. يعود الفضل في ذلك إلى عدة عوامل منها: مشروع الخديوي إسماعيل (حكم 1863-1879) لتحديث وتطوير مصر على خطى الدول الأوروبية؛ النمو الاقتصادي المطّرد الذي جذب جاليات أجنبية عديدة (كاليونانيين والإيطاليين والفرنسيين) كان لها صحفها الخاصة؛ الارتفاع النسبي في مستوى التعليم فيها بفضل المدارس العديدة التي افتتحت في عهد محمد علي وخلفائه؛ إضافةً إلى وجود مناخ سياسي أكثر انفتاحاً منه في السلطنة العثمانية. في غضون ذلك، باتت سوق الصحافة المحدودة في سوريا مشبعةً بأعدادٍ كبيرة من الصحف، كما أن الرقابة العثمانية على الصحف أصبحت أكثر تشدّداً مع مرور الوقت (المزيد عن هذا الموضوع في الجلسة الرابعة)، مما حذا بالعديد من أبنائها المتعلّمين إلى الهجرة إلى مصر بحثاً عن العمل في المجال الصحفي أو التربوي أو الحكومي.
بعد محاولتين وجيزتين—الأولى لصحفيَين مصريَين (نزهة الأفكار عام 1869) والأخرى لصحفيَين سوريَين من الروم الأرثوذوكس (كوكب الشرق عام 1873)—شكّلت صحيفة الأهرام التي أسسها الأخوان سليم وبشارة تقلا (مواليد كفرشيما، جبل لبنان، لعائلة من الروم الكاثوليك) في الإسكندرية عام 1876 أول مشروعٍ ناجحٍ لصحيفة عربية خاصة في مصر. في الحقيقة، ارتقت الأهرام سريعاً لتصبح الصحيفة العربية الأولى من حيث دقّة واتّساع وسرعة تغطيتها الإخبارية. يعود الفضل في ذلك إلى الأخوين تقلا، الذين تميّزا بحسّهما التجاري العالي ومهارتهما الإدارية إلى جانب حنكتهما السياسية التي مكّنتهم من تكوين علاقات مع مختلف القوى الفاعلة في الساحة المصرية المضطربة آنذاك. من الصحف الأخرى التي أسسها صحفيو بلاد الشام في مصر: المقطّم (1889 ليعقوب صروف وفارس نمر، الذين نقلا أيضاً المقتطف معهما إلى مصر)، الهلال (1892، جرجي زيدان)، المنار (1898، رشيد رضا)، الجامعة (1899، فرح أنطون).
مجيء جمال الدين الأفغاني إلى مصر عام 1871 كان عاملا آخراً محفّزاً للصحافة العربية في مصر. لم يكن الأفغاني نفسه صحفياً لامعاً، ولكنه كان ناشطاً سياسياً بارعاً استقطب مجموعة من الشباب المتعلّم الذين حثّهم على إنشاء الصحف وبثّ الآراء الإصلاحية بين عامة الناس. من جملة الصحفيين الذين التفوا حوله: أديب إسحاق (صحفي أرمني من مواليد دمشق ومؤسس صحيفتي مصر والتجارة)، يعقوب صنوع (صحفي يهودي مصري عرف بجريدته الساخرة أبو نظارة)، وعبد الله النديم (أحد أوائل الصحفيين المصريين المسلمين، صاحب التنكيت والتبكيت).

يعقوب صنوع المعروف بأبو نظارة، المصدر: ويكيميديا
بعد الاضطرابات السياسية التي رافقت الثورة العرابية (1879-1882) والغزو البريطاني لمصر (1882) انتعشت الصحافة العربية في مصر من جديد في ظل الحاكم الإنجليزي لورد كرومر (1883-1907) الذي نظر للصحافة باعتبارها تنفيساً لاحتقان الشعب من دون تأثير سياسي يستحق الاعتبار.
3. المهجر الأوروبي
لم تكن الصحافة العربية في المهجر الأوروبي مرحلةً لاحقةً لنظيرتيها في بيروت ومصر بل موازيةً لهما. فبعد شهورٍ قليلة من إصدار خليل خوري لحديقة الأخبار في بيروت، أسّس رجل الأعمال والأديب الماروني اللبناني رشيد الدحداح صحيفةً عربية في باريس أسماها برجس باريس استمرّت في الصدور لثمانية أعوام. في العقود التالية هاجر العديد من الصحفيين والكتاب العرب إلى أوروبا وأمريكا الشمالية بحثاً عن بيئة أكثر حريّة لممارسة مهنتهم، نذكر منهم رزق الله حسون، لويس صابونجي، يعقوب صنوع، فرح أنطون، ومحمد عبده، وغيرهم الكثير. من سخرية القدر أن الخديوي إسماعيل نفسه، الذي هجر العديد من الصحفيين العرب مصر هرباً من اضطهاده، أسس صحيفةً في منفاه في نابولي الإيطالية تحمل إسم الخلافة تحت إشراف إبراهيم المويلحي.
صحيفة المبشّر الجزائرية:
صحيفة أسسها المستعمر الفرنسي في الجزائر عام 1847. النصّ الذي تم تضمينه في الجلسة “إعلام لجميع العرب” عبارة عن إعلان موجّه من الحاكم الفرنسي دوق دومال لأهالي الجزائر. يقدّم الإعلان الحكم الفرنسي على أنه إرادة إلهية، ويعد السكان بالأمان على دينهم وممتلكاتهم إن هم أطاعوه، فيما يتوعدهم بالعقاب الشديد إن تمرّدوا عليه. يشكّل هذا الإعلان نموذجاً للخطاب الاستعماري الفرنسي في المنطقة العربية الذي يحاول استمالة السكان المسلمين على أساس عواطفهم الدينية، كما فعل نابليون بونابرت لدى حملته على مصر 1798-1801. فالمستعمر الأوروبي لم يهدف بالضرورة إلى “هدم الدين الإسلامي” أو “علمنة المجتمعات الإسلامية” (كما يحلو للبعض تخيله) بل إلى تطويع الدين لغاياته الخاصة، وعلى رأسها تبرير حكمه.

نابليون بونابرت مخاطباً المسلمين في مصر: واعلموا أيضا أمتكم أن الله قدر في الأزل هلاك أعداء الإسلام وتكسير الصلبان على يدي، وقدّر في الأزل أني أجيء من المغرب إلى أرض مصر لهلاك الذين ظلموا فيها. مصدر الصورة: ويكيميديا
إلى جانب إطلاع الطلاب على نموذج للخطاب الاستعماري وصحافته في المنطقة العربية، كانت الغاية من هذا النص تعريفهم ببعض خصائص اللغة العربية في المغرب العربي. فعلى سبيل المثال، يلاحظ في النص أن “ف” لا تمثل حرف الفاء بل القاف، في حين أن الفاء تكتب على الشكل التالي: ڢ (النقطة أسفل الحرف).
خطبة في آداب العرب:
“خطبة في آداب العرب” (بلغة اليوم: “محاضرة في الثقافة العربية”) نص مبني على محاضرة ألقاها بطرس البستاني عام 1859 في “عمدة الخطب” (بلغة اليوم: “جمعية المحاضرات”). في هذا النص، يعطي بطرس البستاني إحدى أولى الصياغات الحديثة لثقافة عربية تتجاوز الحدود الدينية والجغرافية والتاريخية.
يبدأ البستاني محاضرته بالحديث عن “آداب العرب” قبل الإسلام، عندما لم يكن لديهم برأيه معارف تتجاوز فصاحة اللسان وبعض المعلومات الفلكية المكتسبة بفعل خبرة العيش في الصحراء. ولكنه يؤكّد أنهم كانوا يمتلكون “نباهة الفكر” و”سرعة الخاطر” التي مكّنتهم بعد ظهور الإسلام واحتكاكهم بالشعوب المتمدّنة في البلاد التي فتحوها من الارتقاء على مستوى العلوم خلال فترةٍ قياسية. بحسب البستاني، ما أنجزه العرب خلال قرنٍ ونيف يعادل ما أنجزه اليونانيون خلال ثمانية قرون. بعد ذلك ينتقل البستاني إلى “جيل العلوم العربية الذهبي” في بداية العهد العباسي، والذي تميّز بحركة ترجمة مكثفة إلى العربية قام بها مسيحيو المشرق الذين كانوا يخدمون في بلاط الخلفاء العباسيين. هذه الحركة أنتجت تراثاً فكرياً عربياً ساهم فيه المسلمون والمسيحيون على حدٍّ سواء، فهو يذكر بختيشوع النيسابوري ويوحنا بن ماسويه الدمشقي إلى جانب الغزالي وابن حنبل وابن سينا ضمن سياقٍ عربي فكري واحد.
في القسم الثالث من محاضرته ينتقل البستاني إلى العلوم العربية في العصر الحديث، والتي كانت في حالةٍ يرثى لها بعد قرونٍ طويلة من الركود الثقافي من وجهة نظره. فالعرب في زمنه “قنوعون جداً في أمر الآداب”، حيث يكتفي الواحد منهم على مستوى علم الجغرافيا “بمعرفة اسم بلدته وطريق بيته ويخشى أن يصيبه الدوار إذا تعلّم أن الشمس ثابتة والأرض تدور”، وعلى مستوى الأدب بقصص بني هلال وألف ليلة وليلة التي تُحكى في القهاوي “تكملةً للكيف على حقه”. ولكن البستاني يذكر بأن العرب قد بدأوا يأخذون بأسباب “اكتساب الآداب” ومنها المطابع والمدارس والصحف. وهنا ينوّه البستاني بخليل خوري تحديداً، الذي أسّس المطبعة السورية وأطلق صحيفة حديقة الأخبار قبل بضعة أشهر من محاضرة البستاني، فيصفه قائلاً بنبرةٍ استشرافية:
وكأني به واقفاً على شاطئ البحر الكبير الفاصل بين العالم القديم والجديد، يستشرف تارةً على الجديد ويلحظ أخرى إلى القديم.

خليل خوري، المصدر: الجزيرة الوثائقية
من الملاحظ أن البستاني متأثّر بالنظرة الاستشراقية للعرب، وخصوصاً تقسيمهم التاريخ العربي إلى عصرٍ “ذهبي” انتهى مع سقوط الخلافة العباسية وآخر “مظلم” استمرّ منذ ذلك الحين حتى بدايات القرن التاسع عشر. ولكنه كان حريصاً أيضاً على الردّ على بعض آرائهم، من قبيل الادّعاء بأن العرب كانوا مقلّدين لليونانيين لا مبدعين، وأن اللغة العربية أو العقل العربي لا يتلاءمان مع العلم الحديث. ولكن من جهةٍ أخرى يوجّه البستاني انتقاداتٍ لبعض الممارسات العربية التي يعتبرها من هوامل تراجعهم الثقافي، كإقصائهم للمرأة عن التعليم ورفضهم للعلوم الغربية لمجرد كونها غربية.
البستاني يولي اهتماماً خاصاً باللغة العربية في محاضرته. فهو يحذّر من التخلّي عن اللغة الفصحى واستبدالها باللغة الدارجة كما فعل اليونان والأرمن واللاتين، ولكنه يعوّل على تمسّك العرب بالقرآن وبتراثهم الأدبي من أجل استمراريتها. كما أنه من جهة ينتقد “المتفرنجين” الذين يستخدمون في حديثهم كلمات أجنبية دخيلة من قبيل كوميسيون وسيكورته [sécurité، “ضمانة” بالفرنسية] وسكوزمى [scusami، “عذراً” بالإيطالية] وأفندم ويطالبهم باستخدام كلمات عربية مأنوسة بدلاً عنها. ومن جهة أخرى ينتقد البستاني المبالغة بالتمسّك بالكلمات “النافرة الميتة” في قواميس اللغة العربية، فهو لا يجد أي مبررٍ لأن يكون للأسد 500 اسم ولا أن نعرف كافة الكلمات التي تصف الإبل إن كنا قد استبدلناها بالعربات و”المراكب النارية” للتنقل.
بالنسبة إلى لغة المحاضرة نفسها، من الممكن ملاحظة كيف أن بعض المصطلحات التي يستخدمها البستاني كانت ذات دلالاتٍ مختلفة في زمانه عن عصرنا الحالي. فعلى سبيل المثال، كلمتا “طائفي” و”وطني” لا تحملان دلالاتٍ سلبية وإيجابية على التوالي كما هو الحال الآن. فعندما يذكر البستاني “المدارس الطائفية” (ص 116) لا يعني بذلك مدارساً تعلّم كراهية الطوائف الأخرى، بل مدارساً تتبع طائفة دينية ما. كذلك عندما يتحدث عن “المدارس الوطنية” (ذات الصفحة)، فهو لا يشير إلى توجهها السياسي أو العقائدي، بل إلى كونها مدارس تتبع المجتمعات المحلّية، بعكس تلك التي أنشأها المبشّرون الأجانب. على هذا النحو تكون مدرسة عين ورقة الشهيرة في جبل لبنان طائفية ووطنية في الآن ذاته (وهذا تناقض بالمعنى الحديث لهذين المصطلحين): فهي طائفية كونها تتبع الطائفة المارونية، ووطنية كونها غير أجنبية.
من الأمور اللافتة أيضاً في لغة البستاني استخدامه كلمة “الإسلام” كاسم جمع للدلالة على المسلمين وليس على دينهم، كما في قوله “وأما الإسلام فمن مدارسهم الشهيرة…” (ص 116). وهذا الاستخدام لم أخبره إلا عند المسيحيين السوريين، سواءً في لغتهم المكتوبة أو المحكية.
الجلسة القادمة ستتناول مقتطفات من أهم الصحف التي صدرت في لبنان ومصر في القرن التاسع عشر مع مناقشة لأهميتها في تشكيل مفهوم الحداثة عند العرب.
[…] كالجنان والمقتطف والهلال (التي مرّ ذكرها في الجلسة السابقة)، والتي كانت تركّز في محتوياتها على المواضيع الثقافية […]
[…] الجلسة القادمة ستقدّم لمحةً عامةً عن الجهود العربية الأولى في مجال الصحافة. […]