تتناول هذه الجلسة طرح “ما بعد الإسلاموية” القائل بأن المجتمعات الإسلامية (بما فيها التيارات الإسلاموية) تشهد تحولاً نحو تبنّي قيم الديمقراطية والتعدّدية السياسية. اكتسب هذا الطرح زخماً بعيد انطلاق ثورات الربيع العربي، والتي اعتبرت تأكيداً له. الجلسة ناقشت ثلاث نصوص: الأول لأوليفيه روا، أحد أهم من تبنّى هذا المفهوم وطبّقه في حالة الربيع العربي؛ فيما يحاول النص الثاني تجاوز بعض عيوب “ما بعد الإسلاموية” من خلال تدعيمه بنظرية الحقل الاجتماعي لبيير بوردو؛ أما النص الأخير فيقدم لمحة موجزة عن الجدل حول مفهوم “المجتمع المدني” في مصر وتونس.
النصوص المقررة:
- Roy, O. (2012), “The Transformation of the Arab World”, Journal of Democracy, Vol. 23 No. 3, pp. 5–18. من أجل تحميل النص إضغط هنا
- Holdo, M. (2016), “Post-Islamism and fields of contention after the Arab Spring. Feminism, Salafism and the revolutionary youth”, Third World Quarterly, pp. 1–16. من أجل تحميل النص إضغط هنا
- Poli, B. de (2014), “Arab Revolts and the ‘Civil State’”, Approaching Religion, Vol. 4 No. 2. من أجل تحميل النص إضغط هنا
في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، طرح آصف بيات (أستاذ علم الاجتماع الإيراني، حالياً أستاذ في جامعة إيلينوي في الولايات المتحدة) مفهوم “ما بعد الإسلاموية” لوصف ابتعاد المجتمع الإيراني آنذاك عن الأيديولوجيا الثورية الإسلامية واتجاهه نحو الليبرالية السياسية والفكرية، والذي توّج بوصول الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي إلى السلطة. اعتبر بيات هذا التحول مثالاً على توجّه عام في المجتمعات الإسلامية لتقبل قيم الحداثة والمشاركة السياسية، بل ونظر إليه باعتباره مشروعاً سياسياً وفكرياً لحلّ معضلة الإسلام والديمقراطية التي أرّقت أذهان السياسيين والباحثين في العالم الإسلامي لعقود طويلة. تلقّف عدد من الباحثين الأوروبيين مفهوم ما بعد الإسلاموية ومنهم عالم الاجتماع الفرنسي المعروف أوليفيه روا Olivier Roy، وإن كان الأخير أكثر تحفظاً من بيات، من خلال تركيزه على فشل الإسلام السياسي أكثر من الإعلان غير المشروط عن انتصار قيم الديمقراطية والحرية. مع انطلاق ثورات الربيع العربي اكتسب مفهوم ما بعد الإسلاموية زخماً كبيراً في أوساط المراقبين، حيث بدت هذه الثورات—في مرحلتها الديمقراطية والسلمية—تأكيداً لطرح بيات وروا بأن تغييراتٍ جذرية قد حدثت في الحقل السياسي في العالم العربي، تبتعد به عن الطرح الإسلاموي التقليدي.

عالم الاجتماع الفرنسي أوليفيه روا (المصدر: راديو فري يوروب)
نص روا صدر في يوليو/ تموز عام 2012، ولكنه يعود إلى نصوص سابقة كتبت بعد أقل من عام من انتصار باكورة ثورات الربيع العربي في تونس. يقدم أوليفيه روا في هذا النص تطبيقاً مباشراً لمفهوم ما بعد الإسلاموية على واقع الربيع العربي في الوقت الذي كان ما يزال الكثيرون ينظرون إلى ثوراته من منظار التظاهرات السلمية في تونس والقاهرة والانتخابات التعدّدية التي تلتها.
ينطلق روا من فكرة أن الإسلاميين—بمن فيهم السلفيون—قد أصبحوا واقعيين في طموحاتهم وخياراتهم السياسية. فلم تعد إقامة دولة إسلامية تطبّق الشريعة الإسلامية على نحوٍ حرفيٍّ صارم على رأس أجندتها؛ بالعكس، فقد انخرطت هذه التيارات في العملية الديمقراطية مشكلةً أحزاباً سياسية تمارس العمل السياسي على أسس براغماتية قائمة على التحالف والتوازن مع القوى الأخرى. كما اتجهت هذه التيارات الإسلامية إلى صياغة رسالتها بلغة عصرية تستجيب لتطلعات وحاجات الأجيال الجديدة الشابة المنفتحة على العالم الغربي وعلى قيم حقوق الإنسان والديمقراطية، والمتطلّعة إلى حياة كريمة وتنمية اقتصادية فعلية، بعيداً عن الصراعات الأيديولوجية والقضايا المصيرية. تبعاً لذلك لم تعد شعارات كفرض الحجاب ومنع تناول المشروبات الكحولية وقطع يد السارق كافية لاجتذاب الناخب في مرحلة ما بعد الربيع العربي.

أعضاء حزب النور السلفي في إحدى جلسات مجلس النواب المصري (المصدر: اليوم السابع)
هذه التطورات جعلت من القوى الإسلامية—برأي روا—عوامل مساعدة على دمقرطة المجتمعات العربية (بل حتى علمنتها سياسياً) وإن عن غير قصد (reluctant agents of democratization). من أجل تدعيم وجهة نظره يقدّم روا عدداً من الملاحظات والفرضيات:
أولاً، تاريخ الغرب يظهر أن الدمقرطة والعلمنة والتسامح الديني لم تكن في الغالب نتاج عمل قوى ليبرالية (علمانية أو دينية)، وإنما نتيجة لتفاهمات وتوازنات سياسية بين قوى متعددة الميول والاتجاهات. فالتسامح الديني على سبيل المثال قد أُرسي بعد حرب الثلاثين عاماً الدموية بين البروتستانت والكاثوليك (1618-1648)، والآباء المؤسسون للولايات المتحدة الذين خطّوا أول دستور ينص صراحةً على الفصل بين الدين والدولة كانوا رجالاً متدينين[1] همّهم الأول حماية كنائسهم من تدخل الدولة وليس العكس.
ثانياً، ضرورة التمييز بحسب روا بين الإيمان والهوية الدينية، وبين الفكر الديني (theology) والتديّن (religiosity). فالفكر الديني يشير إلى محتوى الدين من عقائد ومعتقدات، وهي لم تتغير في حالة الإسلام. أما التدين فيشير إلى طريقة معايشة المرء لإيمانه، وقد تغير كثيراً في السنوات الماضية. فالحركات الإسلامية تقدم أنماطاً جديدة من التدين مختلفة جذرياً عن الإسلام التقليدي للأجيال السابقة. السلطة الدينية على سبيل المثال لم تعد محصورة في يد المؤسسات الدينية التقليدية، بل امتدت إلى الأفراد والدعاة الجدد. بحسب روا فإن هذا النمط من التدين (سواءً كان ليبرالياً أم لا) أكثر توافقاً مع الديمقراطية لأنه يؤدي إلى تعدّد التفسيرات الدينية وتنوعها. إلى جانب ذلك قام الإسلاميون بتحويل الإسلام إلى مجموعة من الكودات الأخلاقية والسلوكية المنعزلة عن العادات والتقاليد الثقافية في محاولة لتكييف الإسلام مع الحداثة والعولمة.[2]
ثالثاً، يؤكد روا أن هناك عوامل كابحة تضبط الإسلاميين في عملهم السياسي. فانخفاض معدلات النمو السكاني في البلاد العربية قد جعلت الأسرة الصغيرة nuclear family الوحدة الاجتماعية الأساسية بدلاً عن العائلة الكبرى أو العشيرة، مما شجّع بروز أنماط التفكير الفردي، خاصةً مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي. كما أن الثقافة السياسية للأجيال الصاعدة مختلفة، فهي لا تكترث بحسب روا بالقضايا الأيديولوجية الكبرى. أخيراً كان لفشل الإسلام السياسي في طرح مشروع مقنع لهذا الجيل أثرٌ في تغيير تكتيكاته بل وأهدافه السياسية.
بنظر روا لا تتسبب هذه التطورات بتراجع الدين في الدول العربية بالضرورة، ولكنها تؤدي إلى تفكيك الإسلام إلى جوانب عديدة (إيمانية، أخلاقية، هوياتية، إلخ) وإلى استقلالية المجال السياسي عن الديني (أي العلمنة السياسية). فمحاولة إعادة أسلمة المجتمع قد أنتجت حالة معاكسة يكون فيها التمييز بين الديني والسياسي أكثر وضوحاً، كما أنها فتحت نقاشاتٍ عديدة عن طبيعة الإسلام ومحتواه الفكري، مما قد يمهّد الطريق لإصلاح إسلامي. ولكن هذا الإصلاح برأي روا ليس شرطاً للدمقرطة كما يطالب الكثيرون وإنما نتيجة في حال تحققها.
من السهل على المراقب الذي شاهد انزلاق الربيع العربي نحو الحروب الأهلية والتوترات الطائفية وعودة الدكتاتورية أن يرى أن روا قد بالغ في تفاؤله. فمع أن الكثير من ملاحظاته صحيحة، إلا أن استنتاجاته لم تتطابق مع الوقع. صحيح أن السلطة الدينية قد أصبحت أكثر فرديّة، وأن هناك تنافساً محموماً بين سلطات مختلفة، ولكن هذا التنافس يؤدي في كثير من الأحيان إلى المغالاة في التشدّد والحرفية في مسعىً لانتزاع الشرعية، بدلاً من بروز آراء أكثر اعتدالاً وتوافقاً مع قيم المجتمع الديمقراطي الحديث.
[لضيق الوقت أعتذر عن تقديم ملخص للنصّين الآخرين، ولكن بالإمكان تحميلهما والاطّلاع عليهما من الرابطين المرفقين أعلاه.]
[1] ليس الجميع، فبينجامين فرانكلين مثلاً كان ربوبياً deist. كما أن الربط بين الحروب الدينية والتسامح الديني قد لا يكون دقيقاً. فمعاهدة ويستفاليا التي أنهت حرب الثلاثين عاماً نصت على حق الملك في تحديد الدين الرسمي لدولته. صحيح أن هامشاً من الحرية قد أعطي لأتباع الديانات الأخرى لممارسة شعائرهم ضمن شروط معينة، ولكن هذه الحرية اقتصرت على الطوائف الثلاث المعترف بها في المعاهدة: الكاثوليكية، اللوثرية، والكالفينية.
[2] ليس من الواضح كيف يمكن لعزل الدين عن الثقافة أن يؤدي إلى جعله أكثر توافقاً مع الحداثة أو الديمقراطية، خصوصاً إذا اعتبرنا أن روا نفسه قد عبّر عن آراء معاكسة في السابق، كما يوحي كتابه الجهل المقدس: زمن دين بلا ثقافة.