تناولت هذه الجلسة كيف تشّربت تيارات ومجتمعات إسلامية عديدة في العالم العربي مبادئ ومظاهر الرأسمالية، حتى بأكثر أشكالها استهلاكية واستغلالية وغربية (كالنيوليبرالية أو الليبرالية الجديدة). الجلسة عالجت عدة مواضيع منها ظاهرة الدعاة الجدد ومشاريعهم التنموية (كعمرو خالد ومشروعه “صنّاع الحياة”) والتي بات يشار لها بـ النيوليبرالية المتدينة أو التقيّة pious Neoliberalism؛ وانتشار أنماط الحياة الاستهلاكية في العالم العربي جنباً إلى جنب مع التدين؛ وأخيراً موضوع القداسة في ظل التغيرات العمرانية الهائلة في مكة المكرمة، والمتمثلة ببناء أبراج ومراكز تسوق حول الحرم المكي وفوق أنقاض أبنية المدينة التاريخية.
النصوص المقررة:
- Atia, Mona (2012), “ ’A Way to Paradise’: Pious Neoliberalism, Islam, and Faith-Based Development”, Annals of the Association of American Geographers, Vol. 102 No. 4, pp. 808–827. (لتحميل النص إضغط هنا)
- Hammond, Andrew (2005) Pop culture Arab world! Media, Arts, and Lifestyle. Abc-Clio, Ch. 9: “Consumerism”, p. 255-285. (لتحميل النص إضغط هنا)
- عبد الرؤوف، علي (2014) من مكة إلى لاس فيجاس: أطروحات نقدية في العمارة والقداسة، مدارات للأبحاث والنشر، القاهرة، الفصل الرابع: “مكة ولاس فيجاس: تنويعات على لحن واحد”، ص 107-138. (لتحميل النص إضغط هنا)
- The Economist (2017) “Making Way for Pilgrims: The Destruction of Mecca”, 02 March. http://www.economist.com/news/middle-east-and-africa/21717992-middle-easts-largest-building-project-has-effaced-1400-years-islamic
الرأسمالية التقيّة:
النص الأول لمنى عطية يتناول بروز طبقة من “المقاولين الأتقياء” pious entrepreneurs في مصر خلال العقدين الماضيين. قام هؤلاء المقاولون-الدعاة بدمج مفاهيم إسلامية كالتقوى والعمل الدعوي مع مبادئ الليبرالية الجديدة في مجال التنمية: كتحسين الكفاءة الإدارية وتشجيع العمل الطوعي وخطاب التطوير الذاتي self-help والمبادرة الذاتية (بشكل مستقل عن الدولة). من جهة أخرى تبنى “المقاولون الأتقياء” الروح الاقتصادية الرأسمالية (المستمدة من البروتستانتية حسب فرضية ماكس فيبر الشهيرة) القائمة على الربط بين النجاح الاقتصادي في الحياة الدنيا مع النجاح في الحياة الآخرة (أي الخلاص أو دخول الجنة). فقد اعتبر عمرو خالد وغيره من الدعاة الجدد أن الدعوة والتقوى لا تقتصران على العبادات والالتزام ببعض السلوكيات الخلقية والمظاهر الدينية، بل تمتد إلى الانخراط في العمل الاقتصادي الاستثماري واتخاذ زمام المبادرة الاجتماعية لتحسين أحوال الناس؛ أو بالأحرى تشجيعهم وتعليمهم على تحسين أحوالهم بأنفسهم، من خلال تبني الثقافة الليبرالية الجديدة.
بحسب عطية فإن ظهور هذه المبادرات في نهاية التسعينيات وبداية القرن الحادي والعشرين يعود إلى عوامل منها تراجع دور الدولة الاقتصادي والتنموي وفشل المشروع الإسلامي التقليدي (الإخواني أو الجهادي) في طرح مشروع بديل مقنع، خاصةً لأبناء الطبقات الميسورة ذات التوجه الاقتصادي الحرّ. فقامت الدولة—بتشجيع من بعض المنظمات الدولية الحريصة على إدماج دول العالم الثالث في سوق رأسمالي عالمي كالبنك الدولي—بإسناد بعض القطاعات الخدمية والاجتماعية لمنظمات تنموية على أسس دينية (ولكن غير مُسيّسة)، على اعتبار أنها أكثر كفاءةً وقرباً من ثقافة الناس وطريقة تفكيرهم.

عمرو خالد: أحد أشهر “المقاولين الأتقياء” في العالم العربي
تناولت عطية في مقالتها عدداً من الأمثلة على مشاريع تنموية أنشأها “مقاولون أتقياء” في مصر، وهي: صنّاع الحياة (والذي ابتدأ كبرنامج تلفزيوني من تقديم عمرو خالد في قناة إقرأ)، جمعية رسالة (أسست عام 1999 من قبل عدد من طلاب الهندسة في جامعة القاهرة)، البراق (مؤسسة لدعم الشركات الناشئة startups العاملة في مجال التقنية العالية، أُنشئت من قبل موظف في شركة أي بي إم)، وزدني (لتطوير الموارد البشرية). كما تشرح عطية كيف يربط القائمون على هذه المشاريع المختلفة بين إيمانهم الديني وتوجهم الليبرالي الجديد. تتميز هذه النسخة الليبرالية الجديدة من النشاط الإسلامي عن التقليدية حسب عطية بكونها تعمل على المستوى الاجتماعي المتوسط meso (كمنظمات المجتمع المدني) وليس الشامل macro (كالمجال السياسي)، كما أن أصحابها ينتمون إلى الطبقة الاجتماعية المتوسطة العليا وليس الدنيا أو العاملة. كما تتميز بخطابها غير المعادي للغرب وبالتركيز على مفاهيم التنمية والارتقاء الذاتي بدلاً من العدالة الاجتماعية.
من الملاحظ أن هذه الفئة الاجتماعية قد لعبت دوراً مهماً في بداية ثورة يناير المصرية عام 2011، فوائل غنيم مؤسس صفحة “كلنا خالد سعيد” على فيسبوك من المتأثرين بعمرو خالد وجمعية رسالة، كما أنه نموذج مثالي لـ “المقاول التقي” الذي يعتمد على نفسه لتحقيق نجاح مهني باهر (تطوير عدد من مواقع الإنترنت الناجحة والارتقاء ليصبح مديراً إقليمياً لغوغل)، ولكنه يتمتع في الآن ذاته بحسٍّ عالٍ من المسؤولية الاجتماعية وتوجه إسلامي معتدل. كما ظهرت مجموعة “سلفيو كوستا” بعيد الثورة والمؤلفة من شباب سلفي منفتح على العولمة والقيم الغربية، قبل أن تتحول إلى مجموعة عمل تنموي. ولكن من الملاحظ أن دور هذه المجموعات السياسي قد تراجع سريعاً أمام التيارات الإسلامية التقليدية والدولة المصرية لافتقارها للأطر السياسية المؤسساتية والقاعدة الشعبية العريضة.

وائل غنيم – أحد أبرز وجوه ثورة يناير المصرية والمدير الإقليمي لغوغل في الشرق الأوسط
سيليكون تحت النقاب: هل من تناقض؟
النص الثاني لأندرو هاموند قد لا يحمل جديداً للقارئ العربي ولكنه يقدم للقارئ الأجنبي لمحة عامة عن انتشار مظاهر الحياة الاستهلاكية وامتزاجها بالتدين في أنحاء مختلفة من العالم العربي، كتحول شهر رمضان إلى “أورجي استهلاكي” (orgy of consumption) على حد تعبير الكاتب، واستغلاله من قبل بعض رجال الأعمال للدعاية الانتخابية في ثوب العمل الخيري. كما يشير الكاتب إلى بعض التطورات التي قد تبدو متناقضة للكثيرين كالزيادة المضطردة في عمليات التجميل، حتى بعد أن تتحول المرأة للبس الحجاب أو النقاب (كما فعلت بعض الممثلات السابقات). فقوام الجسد شيء والالتزام الديني شيءٌ آخر بحسب هاموند.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف يمكن التوفيق بين هذه الملاحظات والفرضية الشائعة بأن المجتمع العربي يزداد تديناً؟ هل يشهد الدين في العالم العربي تحولات عميقة من الداخل في الوقت الذي يحتفظ فيه بقشرة خارجية صلبة تبدو عصية على التغيير؟ ما هي النتائج بعيدة المدى لهذا التحول المضطرد؟ هل الإسلام يتعلمن من الداخل وأنّ تعلمنه الخارجي ليس إلا مسألة وقت حتى اكتمال التحول نحو اقتصاد رأسمالي حقيقي والاندماج في السوق العالمية، أم أن التطورين (العلمنة والرأسمالية) مستقلّين عن بعضهما البعض بكل بساطة وأن الرأسمالية “حيادية” بالنسبة للعلمنة؟ هذه أسئلة معقدة لا يمكن الإجابة عنها بسهولة، ولكن من الممكن النظر إلى مدينة عربية يتجلّى فيها هذا التناقض (الظاهري) بين الرأسمالية والدين بأسطع أشكاله: ألا وهي مكّة المكرمة.
مكّة المكرمة ولاس فيجاس: بين احتضار القداسة واستحضارها.
في النص الثالث يقدم المعماري المصري علي عبد الرؤوف مقارنة لافتة للنظر بين مدينتي مكّة المكرمة (قبلة المسلمين وأقدس بقاع الأرض لهم) ولاس فيجاس (قبلة المقامرين ومدينة اللهو والمجون) من ناحية الطراز المعماري وعلاقته بالقداسة. السبب الذي حدا بعبد الرؤوف للشروع في كتابه هذا صدمته “الروحية” لدى زيارته مكة المكرمة لأداء مناسك العمرة وجزعه لرؤية أبراج خرسانية “متوحشة […] تشق السماء بقسوة” وتقزّم ما حولها بما فيها الكعبة، ومن ثم زيارته لمدينة لاس فيجاس ليجد نفسه “متورطاً بصرياً وعاطفياً وذهنياً ونقدياً” في عقد مقارنة بين المدينة التي التي يذهب لها المسلمون للتطهر من ذنوبهم والمدينة التي يذهب لها الناس لارتكاب الذنوب sin city. (أنظر مقدمة الكتاب هنا).

تقزّم الكعبة أمام الأبراج المحيطة بها من منظور زوار الحرم المكي
يوجز عبد الرؤوف التشابهات والمقارنات المعمارية بين المدينتين في النقاط التالية:
أولاً: القيمة العقارية الهائلة، وهي الأعلى عالمياً على مستوى المتر المربع، فالعائدان الاستثماريان لبناء كازينو في لاس فيجاس وفندق في مكة المكرمة مرتفعان جداً مما يجعل كليهما ماكينةً لتوليد المال.
ثانياً: نموذج “البلدوزر” في التنمية العمرانية، فالمدينتان تشتركان بالفلسفة العمرانية ذاتها: قم بتشييد بناء ضخم، استثمره لبضع سنوات، ثم قم بهدمه وتشييد بناء أضخم منه، والذي بدوره يُهدم بعد عدة سنوات، وهكذا دواليك. لذلك فإن متوسط عمر البناء في كلا المدينتين قصير جداً مما يمنع تشكّل أي هوية عمرانية مستدامة.
ثالثاً: “البرج هو الحل”، أي طغيان منطق الإبهار البصري والضخامة على الجانب الجمالي من دون أي مراعاة للطراز العمراني المحلّي. فبرج ساعة مكة عبارة عن تقليد مبتذل لساعة بيج بين بعد تضخيمها خمس مرات وزرع هلال فوقها وكأن ذلك كافٍ لإعطائها هوية إسلامية. عبد الرؤوف يستغرب هذا الهوس بتحطيم الأرقام القياسية في الضخامة بينما المرء في بيت الله الحرام في أشد لحظات ضعفه وتواضعه لا يرتدي سوى قطعة قماش بيضاء.

برج ساعة مكة (يمين) وبرج بيج بين (يسار)
نتيجة لهذا النمط الرأسمالي المتوحش في الاستثمار العمراني أصبحت مكة كما لاس فيجاس حكراً على الأغنياء. فالأسعار الخيالية للفنادق والعقارات تجبر سكّان المدينة محدودي الدخل على الابتعاد عن المركز والتوجه نحو الأطراف، فيما يحظى الأغنياء بـ “شرف” الإقامة في شقة أو غرفة مطلّة على المسجد الحرام مع وجود فتاوى عديدة بأن الصلاة فيها تعادل الصلاة في المسجد، من دون الحاجة للاختلاط بعامة الناس تحت قيظ الشمس بدلاً من راحة الغرفة المكيّفة والمزوّدة بخدمة خمس نجوم.
بحسب هذا الفيديو الترويجي لفندق ساعة مكة فيرمونت، يمكن للزوار التمتع بـ “السكينة والروحانية” في أجواء من الترف الفاخر
الأمر يتعدّى قضية المساواة الاقتصادية إلى الجانب الثقافي، فعدد من أبناء مكة يشعر بأن مدينته تنتهك عمرانياً وأن إرثها العمراني والحضاري يُمحى ليقام مكانه كتل إسمنتية زائفة لا تحمل شيئاً من طابع المدينة الجمالي، ولا تهدف إلى أي شيء خلا الربح المالي (تماماً ككازينوهات لاس فيجاس). فبيت خديجة زوجة الرسول الأولى قد تحول إلى مغاسل للوضوء فيما هُدم بيت أبي بكر وبني فندق مكة هيلتون على أنقاضه.

متجر باريس هيلتون في مكة المكرمة لا يمثل تهديداً لعقيدة التوحيد بحسب السلطة الدينية في السعودية

ولكن بعض قبور الصحابة خطر على التوحيد
بعيداً عن الجانب الربحي وعن تبريرات السلطات السعودية بالرغبة في استيعاب الأعداد المتزايدة لزوار الحرم المكّي، فإن الجانب الأيديولوحي لعمليات الهدم والبناء هذه ليس خفياً على الإطلاق (وهذا ما لا يناقشه عبد الرؤوف في نصّه هذا). فالعقيدة الوهابية الرسمية في المملكة العربية السعودية تنظر للإسلام من منظور نصّي حرفي بحت يتعالى على الثقافة، وبالتالي ترى أن أيّ تجلٍّ للدين في الثقافة أو تقاطعٍ معها بمثابة تلويث لنقاء العقيدة وتحدٍّ أيديولجي لسلطتها.
المقارنة الرابعة التي يجريها عبد الرؤوف بين مكة وفيجاس تتعلّق بمفهوم القداسة والتعبير عنه على المستوى المعماري. فهناك “تشابه جدلي” بين المدينتين من حيث التعامل مع المقدّس. فالأخيرة فاقدة للمقدّس فتستحضره اصطناعياً (ولو بشكلٍ مبتذل) من خلال تقليد العمارة المقدسة في أنحاء العالم الأخرى على هئية أبنية ضخمة مغلّفة بأضواء الساطعة، أما الأولى فهي تمتلك القداسة ولكنها تُحتضر وتُخنق بأبنية ضخمة مغلّفة بأضواء ساطعة.

احتضار القداسة من خلال الأضواء الباهرة والأبراج الضخمة في محيط الحرم المكي، هل لاحظت وجود الكعبة في الصورة؟

استحضار القداسة في لاس فيجاس من خلال التقليد المبتذل للعمارة المقدسة
هذا “السُخف المعماري” بتعبير الناقد نيكولاي أوراوسوف من النيويورك التايمز قد أثار انتقادات عديدة على المستوى العالمي كما من قبل بعض الناشطين المحلّيين، ولكن معظم المعماريين في العالم الإسلامي—حسب عبد الرؤوف—بقيوا صامتين إزاءه. اللافت للنظر أن هذا التوجه المعماري الرأسمالي الشرس جديد نسبياً في المملكة العربية السعودية. فحتى بداية الثمانينيات كان توجع السلطات السعودية نحو أساليب معمارية مراعية للبيئة المحلية كما يتجلى ذلك في صالة الحجاج في مطار الملك عبد العزيز في جدّة والحائزة على جوائز معمارية عالمية.

صالة الحجاج في مطار الملك عبد العزيز في جدّة والمصممة على هئية خيم كي تلائم البيئة المعمارية المحلّية
قد لا يرى البعض أي تناقض بين الإسلام (حتى بأكثر أشكاله تشدّداً) وهذه النسخة التوسعية الشرسة من الرأسمالية، ولكن لا أحد يستطيع الجزم بالتأثيرات طويلة الأمد لهذا التزاوج الغريب بين القداسة والمال؛ خصوصاً أن هذا التزاوج غير قائم على المساواة بين الطرفين، بل على طغيان المال على القداسة، كما يبدو ذلك من الناحية العمرانية على الأقل. الأمر في الحقيقة يبدو أقرب إلى تدمير منهجي للقداسة على يد تحالف من أيديولوجيا دينية شديدة التطهريّة puritanism وأخرى اقتصادية ذات نزعة عنيفة لتمزيق النسيج الثقافي. على كل حال السعودية لم تتحول بعد إلى نظام اقتصاد سوق حر حقيقي، فاقتصادها ما زال ريعياً بالأساس، وقطاعها الخاص ما زال محدوداً وبالتالي لا وجود لطبقة متوسطة مستلقة عن الدولة، كما أن الطبقة العاملة بمعظمها مستوردة من الخارج وليست وطنية. هذه البنية الاقتصادية-الاجتماعية عصيّة على التغيير الديني أو السياسي، ولكن الوضع لا يمكن أن يستمر على هذا الشكل للأبد. فهناك مؤشرات عديدة على أن القطاع الخاص قد بدأ يلعب دوراً متزايداً في الاقتصاد السعودي، وأن هذا التطور يترافق مع بروز تيار سعودي ليبرالي في المجالين الثقافي والاجتماعي (وليس السياسي، في الوقت الحالي على الأقل). من يدري، فالسعودية التي ينظر إليها على أنها أشدّ الدول العربية عدائية للعلمانية قد تشهد علمنة شاملة في العقود االقليلة القادمة، بفضل الوهابية وتزاوجها مع الرأسمالية.
الإبهار الضوئي في لاس فيجاس ومكة المكرمة

مكة عام 1910

مكة عام 1889 وفي الخلف تبدو قلعة أجياد العثمانية التي بني برج ساعة مكة في محلّها